محاكمة أنصار الشريعة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
محاكمة أنصار الشريعة
بسم الله الواحد القهار
والصلاة والسلام على الضحوك القتال
[ محاكمة أنصار الشريعة ]
مع بداية بزوغ فجر الثلاثاء 22 رجب 1433 وانسحاب الليل تدريجيا من على جبهة الحرور وزنجبار في منطقة "أبين" بدأت فرق الإستطلاع في الجيش اليمني تؤكد لقيادتها الميدانية وفي تقارير متتالية خلو مسرح العمليات من أي أثر لمقاتلي أنصار الشريعة ! فلا مراكز متقدمة ولا حركة آليات ولا نقاط رصد فقط هدوء غريب وسكون تام .. سكون لم تبدد سكناته سوى صرخات السفير الأمريكي في وجه المسؤولين في صنعاء : كيف تم ذلك ؟ وماذا يعني ؟ أين ذهبوا بحق السماء ؟؟
الحقيقة أني لا ألوم مستر " فايرستاين" على صرخاته تلك والتي بالتأكيد قد تلقى شيء لا يقل عنها توبيخا من البيت الأبيض فعملية الإنسحاب المفاجئة لأنصار الشريعة من مدن أبين وشبوة قد أربكت جميع مكونات الصراع وغيرهم أيضا من المؤيدين والمحايدين والمراقبين والمحللين والعامة .. فالجميع كان يسأل لماذا تم الإنسحاب وفيما كانت السيطرة إذن وماذا يمكن أن يحدث ؟
وقبل أن أكشف عن التفاصيل المثيرة لمخطط الإنحياز الإستراتيجي من مدن زنجبار ووقار وشقرة والتي تنشر لأول مرة بودي أن أعرج على نقطة غاية في الأهمية لفهم حقيقة ما حدث في "أبين" فأي معركة صغيرة أو كبيرة لا يمكن فهمها أو تقييمها عسكريا دون تصنيف الحدث نفسه من حيث كونه هزيمة أو انتصار .. ولذا سنحاول أن نتعرف أولا على طبيعة الإنسحاب في الحرب ومتى يكون انتصارا طبقا للمعايير العسكرية المتعارف عليها .
الإنسحابات الناجحة
سجل التاريخ العسكري القديم والمعاصر حافل بالكثير من الإنسحابات العسكرية منها ما يصنف على أنها انسحابات ناجحة كالإنسحابات الشهيرة التي خطط لها ونفذها الجنرال الأمريكي " ماك آرثر" من جزر شرق آسيا في الجولة الأولى من الحرب العالمية الثانية عندما رجع بقواته لأكثر من 2000 كيلو متر عبر جزر المحيط الهادي ثم عاد كالطوفان بعد ذلك حتى أرغم اليابانيين على توقيع إتفاقية الإستسلام في نهاية الحرب .
وكإنسحاب الجيوش الأوربية من ميناء " دنكرك" الفرنسي بعد أن اجتاحت فرق "البانزر" الألمانية الأراضي الفرنسية ونجاحها في اختراق خطوط الدفاع في بلجيكا وشمال فرنسا بطريقة أذهلت الجميع - الحرب الخاطفة - فعند هذا الموقف أصبح هناك ما بات يعرف تاريخيا بالسباق نحو البحر لأن الساحل الفرنسي هناك كان يضم ميناء دنكرك وهو الميناء الوحيد والفرصة الأخيرة التي يمكن أن تنقذ الحلفاء من الوقوع بين فكي الكماشة الألمانية .. والحق أن الإنجليز أظهروا رباطة جأش وحسن تنظيم لعمليات الإنسحاب عبر ذلك الميناء والتي أسفرت عن إنقاذ أكثر من 300 ألف جندي إنجليزي وفرنسي وبلجيكي في أقل من 40 يوم تحت القصف الشديد .
وتندرج تحت هذه القائمة الإنسحابات المتقنة التي نفذها ثعلب الصحراء "رومل" على طول الطريق الساحلي من العلمين غرب مصر إلى تونس بالرغم من سوء الظروف التموينية التي كان يمر بها الفيلق الإفريقي الذي كان تحت قيادته ومازالت تكتيكاته تلك تدرس في الكليات والمعاهد العسكرية .
ونلاحظ هنا أن كل تلك الإنسحابات التي صنفت على أنها " عمل عسكري ناجح " قد وضعت على أساس إنقاذ " الكتلة البشرية " كهدف أصيل أي أن الصراع في هذه النقطة من الحرب كان يدور حول القضاء أو الحفاظ على الكتلة البشرية دون أي اعتبار مهم لكسب أو فقد الأراضي عن أطراف النزاع لأنه بخسارة الكتلة البشرية تخسر الفرصة للإستمرار في الحرب ، ولذا نرى أن الحلفاء في دنكرك وماك آرثر في المحيط الهادي ورومل في شمال إفريقيا اعتبروا " منتصرين" تكتيكيا عندما حافظوا على جيوشهم من الهلاك أو الوقوع في الأسر ومع أن الحالة الأخيرة مع رومل قد أسر فيها الجيش بأكملة في نهاية المطاف عندما حصر في تونس إلا أن عملية الإنسحاب نفسها منذ البداية حتى النهاية كانت ناجحة وبشهادة أعدائه .. وفي المقابل نرى أن اليابانيين في المحيط الهادي والألمان في دنكرك والإنجليز في شمال إفريقيا اعتبروا " مهزومين" تكتيكيا لأنهم أخفقوا في القضاء على أعدائهم مع أنهم يملكون أفضلية الإندفاع الهجومي .
الإنسحابات الفاشلة
هي أكثر من أن تحصى ومنها على سبيل المثال الإنسحابات التي نفذها الجيش العثماني من فلسطين وبقية مناطق الشام فنجاح الجيش الإنجليزي بقيادة "اللنبي" في قطع طرق الإمداد والإنسحاب الآمنة للعثمانيين من جهة وقيام الميليشيا والقبائل العربية بضرب تلك الفرق المنسحبة من الخلف أدى إلى فوضى عارمة في صفوف الجيش العثماني مما أدى إلى وقوع أفراد ذلك الجيش بين قتيل وأسير وطريد لا يلوي على شيء !
ومن الإنسحابات الفاشلة أيضا ما حدث مع الجيش المصري في حرب 1967 عندما نجح الطيران الإسرائيلي في السيطرة على الأجواء المصرية بعد أن تمكن من تدمير سلاح الجو المصري وهو رابظ على الأرض في عملية مباغتة أطلق عليها "ضربة صهيون" فعندما أدركت القيادة المصرية أن جيشها في سيناء بلا غطاء جوي حصلت حالة من الإرباك زادت حدتها مع اندفاع الألوية الإسرائيلية المدرعة في عمق سيناء فعند هذه اللحظة وتحت ضغط أرقام القتلى والإصابات المتزايدة وأمام هاجس الخوف من تدمير جسور قناة السويس وهي طريق العودة الوحيد للجيش أعطى المشير عامر عبدالحكيم قرار الإنسحاب لجميع الوحدات المقاتلة في سيناء ولكن الخطأ الإجرائي الذي وقع فيه هو أن القرار قد صدر دون خطة لتنظيم حركة انسحاب الجيش فعملية انسحاب سريع لجيش يبلغ تعداده أكثر من 100 ألف جندي بآلياتهم وعتادهم العسكري تحتاج وطبقا لتقديرات قيادة أركان الجيش المصري آنذاك لمدة لا تقل عن ثلاثة أيام بينما المشير قد أصدر قرارا بالإنسحاب الفوري وهو ما تسبب في تزاحم الفرق العسكرية على خط الإنسحاب الممتد من العريش إلى القناة دون أي غطاء من قوات الدفاع الجوي وفي ظل سيطرة الطيران الإسرائيلي على الأجواء فوق سيناء مما جعل من تدمير معظم تلك الأرتال عملية سهلة للطيران الإسرائيلي .
ومن الإنسحابات الفاشلة والكارثية كذلك ما حدث في عملية " عاصفة الصحراء" عندما قرر صدام حسين سحب قواته من الكويت بعد أن أنهكتها الحملة الجوية وبعد أن اخترقت قوات التحالف خطوط الدفاع التي أقامها على الحدود الكويتية السعودية ، فتحت ضغط الموقف أعطى صدام حسين قرارا بالإنسحاب العام فتكدست نتيجة لذلك القوات العراقية المنسحبة على جنبات طريق " المطلاع" وهو الطريق الوحيد المؤدي إلى الحدود العراقية وقد كان الأمريكان وطبقا لمذكرات " شوارزكوف " قائد قوات التحالف كانوا قد درسوا مثل هذه الإحتمالية وقرروا مسبقا تدمير أي قوات عراقية منسحبة من خلال هذا الطريق حتى يفقد صدام حسين معظم قواته التي شاركت في عملية الغزو فيخسر بذلك جزء كبير من تعداد جيشه وهو ما حدث بالفعل على طريق المطلاع الذي أطلق عليه بعد ذلك " طريق الموت".
ونلاحظ هنا أن كل تلك الإنسحابات التي صنفت بإجماع المعلقين والنقاد العسكريين على أنها " عمل عسكري فاشل " قد وضعت أساسا لإنقاذ الكتلة البشرية كهدف أصيل لهذه العتبة الحساسة من الحرب ولذلك ينطبق على أطراف الصراع هنا وصف " منتصرين " أو " منهزمين " تماما كما قررناه في فقرة الإنسحابات الناجحة فلو تم انسحاب الجيش العثماني بسلام لاحتفظ بتوازن قواه الإقليمية على الأقل ولو أنقذت القيادة المصرية الجيش من الهلاك لتغيرت معادلة الحرب آنذاك ولو نجح صدام حسين في سحب قواته لما خسر شيئا من عملية الغزو ! ولكن الجميع أخفق في إدارة إنسحاب مثالي يظمن سلامة قواته التي سيستمر من خلالها في فرض نفسه على ساحة الحرب .
انسحاب "مؤتة" هزيمة أم إنتصار ؟
هناك إنسحابات عسكرية اختلف في تصنيفها من حيث وصفها كعمل عسكري ناجح أو فاشل وهذا ينبع من عدم وضوح المعنى الكامن خلف العملية وما تمثله من تأثير في مجريات الحرب ككل ،ومرجع الخلاف يكمن في طبيعة تناول الحدث فبعض المؤرخين يتناولون الحدث التاريخي كما هو وبأرقامه ونتائجه المباشرة أما البعض الآخر ممن يمازجون بين السرد والنقد فيتناولون مثل هذه الأحداث بالمنهج التحليلي الذي يربطون به الحدث بالمسار العام للأحداث أو بظروف الموقف وظلاله وتأثير الحدث فيه .
ومن أشهر الإنسحابات التي اختلف المؤرخون في تقييمها أو تصنيفها هو الإنسحاب الكبير الذي نفذه خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة "مؤتة" فقد تباينت آراء المؤرخين حول نتيجة تلك المعركة التي انتهت بذلك الإنسحاب ومرجع الخلاف كما قلنا يكمن في طبيعة تناول الحدث أما الحق الذي لا مرية فيه فسيتبين بمجرد تناول قائمة الأهداف والفوائد التي خرج بها المسلمون من هذه الغزوة المباركة .
غزوة مؤتة كانت عبارة عن حملة تأديبية كرد فعل من الدولة الإسلامية على مقتل مبعوثها "الحارث بن عمير" الذي قتل على يد الغساسنة حلفاء دولة الروم في شمال الجزيرة العربية ولذا اقتصر تعداد الجيش على ثلاثة آلاف مقاتل بعكس الجيش الذي أرسل بعد ذلك بعامين في غزوة تبوك وضم قرابة الثلاثين ألف مقاتلا ،واقتصرت مهمة الجيش في هذه الحملة على تأديب الغساسنة وإثبات وجود وقوة الدولة الإسلامية واستعدادها التام للدفاع عن رعاياها وبث روح الهيبة بين القبائل المجاورة والحذر من التعرض للمسلمين بالأذى ولو كان ذلك الأذى على شخص واحد فقط كالحارث بن عمير ، إلا أن هذه الحملة قد جوبهت بتحالف ضخم يضم مئتي ألف مقاتلا من الجيوش الرومانية جيدة التسليح ومن التشكيلات المحلية لقبائل لخم وجذام والغساسنة .
وكانت المعجزة الأولى هنا هي في قبول الجيش المسلم لهذا التحدي الكبير ودخوله إلى المعركة أمام هذه الزحوف المرعبة مما دل على ارتفاع الروح المعنوية للجيش المسلم وقوة إيمانه بالله عز وجل وصدق توكله عليه وهذه الجرأة بحد ذاتها قد فتت بعضد قوات التحالف فلم يسبق في تلك العصور ولم يكن معهودا بالمرة أن تأتي حملة عسكرية بهذا العدد المتواضع لتقف أمام تلك الأمواج من الجحافل المهولة حيث كانت نسبة الجيش المسلم 1.5 بالمئة من تعداد أعدائه !
أما المعجزة الثانية فتمثلت بثبات الجيش المسلم في الميدان طوال فترة القتال العنيف ليومين على التوالي ولا أدل على عنف و شراسة القتال في تلك الم* من مقتل القادة الثلاثة الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتناوب وقد ورد أيضا عن خالد بن الوليد أنه قد تكسرت في يده تسعة أسياف في تلك المعركة وهذا الثبات المستميت في الميدان قد زعزع ثقة ذلك التحالف في نفسه فهم لا يواجهون إلا حملة تأديبية وعلى مسافة بعيدة من الدولة الإسلامية فكيف لو اجتمعت قوة المسلمين عليهم أو لو تورطوا بالدخول إلى المناطق الداخلية للمسلمين !
فمثل هذه الإنطباعات تبقى راسخة في أذهان القادة العسكريين سواء عند الرومان أو حلفائهم حتى وبعد أن ينقضي غبار الم* وهذا ما يفسر عدم لجوء قوات التحالف إلى مطاردة الجيش المسلم الذي انسحب بعد ذلك .
أما المعجزة الثالثة فهي ذلك الإنسحاب العبقري الذي قام به خالد بن الوليد وخطط له فور توليه زمام القيادة فقد قدر خالد بن الوليد وهو أخو الحروب الذي لم يهزم في إسلام ولا في جاهلية والذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة بأنه "سيف الله المسلول " قد أنه لا يمكن الإستمرار في مجابهة ذلك التحالف الضخم فكثرة الإصابات في صفوف الجيش المسلم ستضعفه مع الوقت مع ماهو فيه من قلة عدد وحينها ستختل صفوف المسلمين ومن ثم تسحق تحت اندفاع تلك الجيوش الجرارة وأن العدو وطبقا لأحداث القتال الذي شهده خالد منذ البداية يحرص على استثمار تفوقه العددي للوصول إلى تلك النقطة في الأيام القادمة ولذا قدر خالد بن الوليد أن الحفاظ على سلامة الكتلة البشرية والإنسحاب بها سيقطع الطريق على الفرصة الوحيدة التي صبر من أجلها التحالف الروماني للقضاء على الجيش المسلم ولكي يغطي على عجزة عن ذلك طوال فترة القتال بالرغم من تفوقه العددي .
فوضوح الموقف العسكري عند خالد وما يمكن أن ينتج عنه جعله يأخذ قراره الحاسم بالإنسحاب حتى يحافظ على المكتسبات التي تحققت في قبول المسلمين للمعركة بكل شجاعة وبلا تردد وتحديهم لغطرسة القوى الإقليمية والدولية آنذاك وأخذهم بثأر الحارث بن عمير بعد أن أثخنوا في الروم والغساسنة ومن معهم والهيبة التي اكتسبها المسلمون جراء ذلك فكل هذه المكتسبات قد تنعدم إن نجح التحالف في القضاء على الجيش المسلم ومن أجل هذا الإعتبار أخذ خالد يرتب منذ اللحظة الأولى لتوليه القيادة لعملية الإنسحاب التي علق عليها كثير من النقاد والمحللين في الشرق والغرب قديما وحديثا بأنها عملية " مستحيلة " ومختصر ما جاء في كتب السيرة والغزوات والبحوث التي تناولت هذه العملية أن خالد بن الوليد اعتمد على " خطة خداعية " يسحب من خلالها كتائبه المقاتلة ويفك الإشتباك مع العدو دون أن يلحظ العدو حقيقة ما يحدث وذلك عبر أربع إجراءات تكتيكية فأولا أمر خالد بأن تظل الخيل طوال الليل تجري في حركة دائبة لتثير الغبار ثم في الصباح الباكر قام بتغيير تشكيلة الجيش فجعل الميمنة ميسرة وبالعكس والمقدمة مؤخرة وبالعكس فظن التحالف الروماني أن المسلمين قد أتاهم مدد الليلة الماضية فحبطت معنوياتهم جراء ذلك ثم وضع خالد عددا من الجنود على مسافة على إحدى التلال خلف الجيش لإثارة الغبار أيضا فتأكد الظن عند الرومان بأنه مدد متواصل وأخيرا أخذ خالد يتراجع بالجيش تدريجيا إلى الصحراء فشك الرومان بأنها خديعة لما ربطوا ذلك بالإشارات التي رصدوها من الغبار البعيد والمدد الجديد فنجح خالد في سحب الجيش بدون اشتباك وفي تجميد الجيش الروماني في مكانه .
ونلاحظ بعد هذه الغزوة أن عامة المسلمين قد تعاملوا سلبيا مع نتيجة المعركة وفهموا على أنها هزيمة ولذا خرج بعض الصبيان على مشارف المدينة ليرموا الجيش العائد بالحجارة ويصمونه بالجبن والهرب بل إن من أوساط ذلك الجيش من تسرب إليه ذلك الشعور فرد النبي صلى الله عليه وسلم تلك التهمة وقال ( ليسوا بالفرار بل هم الكرار إن شاء الله )
وهذا الشيء يمثل نمط التفكير التلقائي عند الجمهور الذي يتعامل مع النتائج المباشرة ولا يتمكن من رؤية شيء غيرها أمامه وهو من جنس الفهم الذي ساد بين الصحابة في رؤيتهم لصلح الحديبية فقد رأوا في بادئ الأمر أن ذلك الصلح غبنا لهم ومكسبا لأعدائهم من قريش ولذلك قال عمر بن الخطاب " لم نعط الدنية في ديننا " ثم نزل قوله تعالى { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } فقال الصحابة : أفتح هو ؟ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم : إي وربي إنه لفتح .
ونفس هذا الشعور بالحسرة والإستياء والهزيمة قد تكرر مع عملية الإنسحاب التي قام بها خالد بن الوليد في مؤتة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر بنص قاطع لا يتطرق إليه شك بأن نتيجة هذه المعركة ستكون " انتصارا " لصالح الجيش المسلم فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم مؤتة وهو في المدينة ( أخذ الراية زيد فأصيب فأخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ..وعيناه تذرفان، حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ) ونلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف نتيجة المعركة التي تمخض عنها ذلك الإنسحاب بأنها " فتح " وأن هذا الفتح سيكون على يد خالد بن الوليد بالذات والمعروف والمثبت أن خالد لم يصدر أي قرار عسكري بعد توليه القيادة سوى ذلك الإنسحاب الذي خطط له بنفسه فكيف يعقل إذن أن يكون ذلك الإنسحاب العبقري هزيمة !!
ونستطيع الآن وبعد هذه المقدمة في طبيعة الإنسحابات وما تمثله من قيمة عسكرية في مسار الحرب أن نحكم على عملية الإنسحاب التكتيكي التي قام بها أنصار الشريعة من مدن محافظتي أبين وشبوة أثناء الحملة العسكرية المشتركة من القوات الحكومية والأمريكية والبريطانية والفرنسية والسعودية بالإضافة إلى مرتزقة اللجان الشعبية ونستطيع من ثم أن نحكم وبكل وضوح على هذه العملية بل وأن نستشرف المستقبل وفقا لذلك وسآتي أولا على ذكر ظروف وتفاصيل العملية منذ بداية نشوء الفكرة والتخطيط لها حتى إعطاء كلمة السر الخاصة بالتنفيذ يوم الثلاثاء 22 رجب وما حدث بعد ذلك .
فأقول وبالله التوفيق أن فكرة السيطرة على " أبين" قامت على أساس إستثمار ومعالجة الأوضاع التي سادت في اليمن بعد اندلاع الثورة فبعد أن سقطعت بعض محافظات الشمال في يد الحوثيين ومناطق أخرى بيد القبائل والأحزاب وانتشرت الفوضى والسلب والنهب وقطع الطريق في أجزاء أخرى من اليمن خرجت الحاجة لمشروع تتظافر فيه جهود المجاهدين مع إخوانهم من أبناء وقار وزنجبار وشقرة وغيرها ليتعاون الجميع في ضبط الأمن وإيقاف المظالم التي كانت تمارس باسم الدولة والأهم من هذا وذاك هو أن تتاح الفرصة أما عامة الناس ليعيشوا تحت ظلال الشريعة الإسلامية وليجدوا فيها كل ما فقدوه في الأنظمة السابقة من عدل ورحمة ومساواة .
وهذه هي النقطة التي جعلت أمريكا تدخل على الخط وبكل قوة للحيلولة دون نجاح ذلك ، ففي الوقت الذي بدأ فيه أنصار الشريعة بتأسيس النظام الإسلامي في مناطق الحكم بدأت الرحلات الم****ة لقائد القوات المركزية الأمريكية ومستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الإرهاب بالإضافة إلى التحركات الداخلية للسفير الأمريكي بهدف لملمة الوضع وبذل ما يمكن من جهود للحيلولة دون سقوط النظام بفعل الثورة وتداعياتها ونتج عن ذلك دعم إتفاقية " المبادرة الخليجية" وريثما تتم عملية انتقال السلطة اكتفى الأمريكان بجر الجيش اليمني بشقيه المؤيد والمعارض للثورة بوجه أي تقدم لأنصار الشريعة بينما يتولوا هم وعن طريق الطائرات بدون طيار بالإضافة للطيران اليمني والسعودي مهمة قصف المراكز الحيوية في وقار وزنجبار وغيرها في محاولة مستمرة لإفشال أي تقدم يحرزه أنصار الشريعة على صعيد إدارة المناطق ، وعندما نجح الأمريكان في مخادعة الشعب اليمني والإلتفاف على ثورته ونقل السلطة لنائب الرئيس أدرك أنصار الشريعة خطورة ذلك عليهم خاصة بعد أن تعهد الرئيس الجديد "عبدربه منصور" وفي أول خطاب رئاسي له بأن يحارب تنظيم القاعدة وبلا هوادة !
فعند هذه اللحظة انتقل الموقف العسكري من مجرد قبول المعركة والثبات في الميدان والذي استمر طوال العام الماضي أمام تحالف متفوق عدديا وتقنيا بشكل كبير انتقل إلى تحدي آخر من أجل الحفاظ على الكتلة البشرية التي لا يمكن الإستمرار في الحرب بدونها .
ومن أجل وضوح هذه الرؤية عند قيادة الأنصار اتخذ قرار الإنحياز عن مناطق السيطرة في وقت مبكر وفي شهر فبراير على وجه التحديد ففي نفس الوقت الذي استلم فيه عبد ربه منصور مقاليد الحكم في صنعاء استلم القائد العسكري " قاسم الريمي" مهمة إدارة عملية الإنحياز والإشراف على التجهيزات اللازمة لذلك وبدأ حينها العمل من خلال مخطط متكامل لتهيأة ظروف واحتياجات الإنسحاب المرتقب فمن جهة أمرت القيادة بزيادة وتيرة ونشاط العمليات العسكرية في جميع الإتجاهات في حضرموت والبيضاء وعدن وغيرها لإشغال العدو وخلط الأوراق عليه ولتشتيت انتباهه عما يحدث في الخلف ومن الجهة الأخرى كان العمل على قدم وساق لتجهيز كل ما يحتاجه الأنصار لتسهيل وتأمين عملية الإنحياز ومن أهم ذلك العمل على تأليف قلوب أمراء ووجهاء القبائل الذين سيحتاج الأنصار لخدماتهم لاحقا فقد كان أكبر هاجس عند القيادة هو أن يحصر الأنصار في "أبين" ولذا كان من المهم كسب ود تلك القبائل لتسهيل الدخول والخروج عن طريقها وبغطاء منها ومن ذلك قبول شفاعة مشايخ قبائل أبين في قضية أسرى عملية " قطع الذنب" التي أسر فيها أكثر من 70 جندي يمني فتم إطلاق سراحهم إكراما للمشايخ وقد كان لهذه الخطوة ومثيلاتها أثر جيد في توطيد العلاقة مع قبائل أبين خاصة أحور آل باكازم والمراقشة - قبائل أمير أبين حمزة الزنجباري جلال المرقشي - وهذا من جهة تأمين الحاضنة أما من جهة تأمين الممرات والطرق فقد تم رصد جميع الطرق التي يمكن أن تكون منافذ صالحة في حالة الحصار المطبق .
سر معركة لودر
في الوقت الذي كانت فيه الإستعدادات جارية لتجهير عملية الإنحياز المرتقبة جاءت معلومات استخباراتية كشفت في وقت مبكر عن أهم معالم الحملة العسكرية التي يجهز لها العدو منذ انتقال السلطة للرئيس الجديد فقد كانت خطة العدو القيام بعملية هجومية ضخمة على وقار وشقرة من عدة محاور أهمها من جهة " لودر" ولذا قام أنصار الشريعة وقبل بدء تلك الحملة بفترة طويلة قاموا بهجوم استباقي على مراكز العدو في لودر وذلك بقصد تثبيت خط قتالي هناك يحرم العدو من فرصة استخدام هذا المحور بل إن العدو ومع الأيام اقتنع بعدم جدوى ذلك بسبب شراسة الم* التي استمرت لمدة شهرين وتكبد فيها خسائر فادحة وقد كان للهجوم على لودر فوائد أخرى بفضل الله كالسيطرة على مواقع كتيبتين للجيش الحكومي بما فيها من آليات وأسلحة وعتاد وكتأديب اللجان الشعبية هناك فقد تلقت تلك اللجان درسا قاسيا حتى بات الناس يقولون " لانعمل لجان فيأتوا لنا في ليل مظلم مثل ما حدث لأصحاب لودر !! "
وبالعموم لم يكن الهدف من القتال في لودر السيطرة عليها بقدر ما كان لإشغال العدو ومنعه من التقدم من هناك ولذا اكتفى الأنصار بالمناوشة بالمدفعية لتثبيت الخط هناك ثم تم الإنحياز من أطراف لودر في منطقة " العين" إلى الخلف قرابة 15 كيلو فقط إلى منطقة "العرقوب" وقد كانت منطقة حصينة إنحاز المجاهدون إليها بكل عتادهم وعدتهم ولم يتركوا ورائهم ولو مسمارا واحدا ! وبسبب ذلك لم يجرء العدو على التحرك إليها إلا بعد فترة طويلة بسبب تخوفه الشديد من تكرار ذكرياته السيئة في م* لودر .
بداية الحملة العسكرية
في هذه الفترة كانت الم* قد اندلعت حول وقار وزنجبار فقد حشد الجيش اليمني أكثر من 25 ألف جندي حول ساحة القتال مدعوما ببعض مرتزقة اللجان الشعبية وبالطيران السعودي وبإسناد مدفعي صاروخي من البارجات الأمريكية والفرنسية والبريطانية المتمركزة في خليج عدن وبرصد مستمر من الطائرات الأمريكية بدون طيار التي أنشأت لها قاعدتين في دول الجوار لإدارة الطلعات منها وقد تميزت هذه الحملة بحشد أفضل الخبرات العسكرية في اليمن كقائد المنطقة الجنوبية الذي تم تعييه حديثا اللواء "سالم قطن" وتميزت كذلك بمشاركة ميدانية للجنود والخبراء الأمريكان في عمليات التوجيه المدفعي وعلى مستوى التخطيط العام للعمليات العسكرية وهذا بجانب حملة إعلامية صممت على أساس إرباك تماسك مقاتلي أنصار الشريعة ببث الأخبار الكاذبة عن أعداد القتلى وسقوط المدن والمناطق وحملة أخرى استهدفت إحداث ضغط نفسي على أنصار الشريعة من خلال القصف المستمر على المدنيين في كل يوم ..
ومع ذلك حافظ مقاتلوا أنصار الشريعة على مراكزهم ولم يتزحزحوا عنها وقد أبدوا في ذلك رباطة جأش ومرونة كبيرة في استيعاب اندفاع الحملات العسكرية على جبهاتهم ومن ثم ردها بكل عنف ، هذا وقد ترك المجاهدون طريق لودر - الوضيع - أحور مفتوحا بالتنسيق مع قبائل المراقشة مع ترتيب كمائن محكمة وفي أماكن مختلفة وقد كان العدو أجبن من أن يتقدم من خلالها ولذا حاول وزير الدفاع اليمني أن يحرك بعض العسكريين من أبناء قبيلة " آل المارم " من منطقة الوضيع - وهي قبيلة عبد ربه منصور - وذلك عبر فرض التحرك عليهم والتهديد بفصلهم من الخدمة فتحركوا بالفعل ووقعوا في إحدى الكمائن ثم فروا هاربين وقد تسببت هذه الحادثة في توتر العلاقات بين المراقشة وآل المارم حيث استنكر المراقشة دخول آل المارم إلى أراضيهم وهذا موقف من المواقف الجيدة التي تحسب لقبيلة المراقشة وهنا تظهر أهمية كسب مثل هذه القبائل وأهمية ما تقدمه من دعم .
أما بالنسبة للجبهة الرئيسية في الحرب فقد كانت بإتجاه "وقار" وتحديدا ناحية جبهة الحرور فهي منطقة مفتوحة يصعب معها تثبيت خط للدفاع.. بخلاف زنجبار فقد كان الخط الدفاعي فيها قويا فطبيعة المنطقة تسمح بتثبيت مواقع و تغطية الثغرات الأخرى بالحواجز والسواتر وغيرها.. وأستطيع القول بأن تلك الحواجز بعد توفيق الله ثبتت الخط في زنجبار وأعاقت حركة الآليات والدبابات بشكل تام أما الحرور فمنطقة مفتوحة و رملية مستوية ليس فيها أي تضاريس.. وكان العدو يستخدم اسلوب "التشتيت" فيضع تشكيلة مكونة من دبابة و طقم و مدرعة وعدد من الجنود.. فيضطر الأنصار تبعا لذلك لترتيب مجموعة مقابلة لهم لتثبيت الخط.. ثم يقوم العدو وعلى بعد مئتين متر بوضع تشكيلة مماثلة من دبابة وطقم و مدرعة.. فيكرر الأنصار نفس الأسلوب بشكل يستنزف قواهم البشرية بدرجة كبيرة في الوقت الذي لا تريد القيادة فيه الحشد لأعداد كبيرة لتثبيت الخط حتى لا تصاب هذه الجموع باختناق في حال الانسحاب ولا يخفى ما في ذلك من مخاطر بعكس جبهة زنجبار التي كانت الحواجز الهندسية تغطي كل ثغرات الخط فيها ..
وعموماً فمساحة المنطقة من الخط في زنجبار إلى خط القتال في الحرور لا يزيد تقريبا عن 25 كيلو متر فمنطقة القتال في وقار وزنجبار صغيرة وهذا ما قلل من فرص العدو ومحاور تقدمه .
وفي هذه الفترة تركز الجهد الإعلامي لأنصار الشريعة وبحسب الخطة الموضوعة على إشعار العدو بأن أنصار الشريعة سوف يستميتون في القتال ولعل الجميع لاحظ هذا الشيء في آخر الأيام قبيل الإنسحاب كاللقطات التي نشرت عبر "وكالة مدد" للغنائم وبعض الكلمات المحرضة وكذلك لقاء حمزة الزنجباري أمير أبين مع الصحفي عبدالرزاق الجمل في مبنى محافظة زنجبار والذي جاء ليدحض مزاعم الإعلام الرسمي في السيطرة على زنجبار فكل تلك الإشارات الإعلامية كانت جزءا من مخطط الخداع الإستراتيجي الذي وضع بعناية لدعم عملية الإنحياز في مثل هذه الظروف الصعبة ويظهر لنا هنا وجه الشبه الشديد بما فعله خالد بن الوليد قبل الإنسحاب في معركة مؤتة
تنفيذ الإنسحاب
في يوم الثلاثاء 22 رجب أصدرت قيادة الأنصار لجميع وحداتها المقاتلة في زنجبار ووقار أمرا بالإنسحاب العام وقد كان وقت التنفيذ في الساعة الثالثة صباحا و كانت كلمة السر للانسحاب والتي لا يعرفها سوى عدد قليل من القيادات هي "عبد الحافظ سعيد" وكان فيها نوع من الفأل الحسن وبحفظ الله وتوفيقه تم الأمر بنجاح ودون أي خطأ أو تأخير في مواعيد انسحاب الوحدات المقاتلة مع الوحدات الإدارية في داخل المدن
وقد تم سحب كل تلك الجموع من مراكز القتال في وقار والحرور وزنجبار دون أن يفقد أحد منهم ودون أن يشعر العدو بما حدث ولم تشرق الشمس يومها إلا بعد انسحاب الأنصار جميعاً ثم وصلت جموع المنسحبين إلى منطقة "شقرة"
وقد تم سحب جميع السلاح الثقيل بفضل الله باستثناء الدبابات ولم يقم الأنصار بتفجيرها حتى لا يلفتوا نظر العدو للإنحياز وقدكان بالإمكان عمل ألغام مؤقتة لتفجيرها بعد الانسحاب ولكن الأنصار خافوا أن تنفجر في الناس فتركوها بسبب ذلك..
وفور تنفيذ الإنسحاب بدأت عملية توزيع و تفريغ المئات من المجاهدين في مجموعات قتالية محدودة العدد إلى كل المناطق والمحافظات في اليمن وذلك في خلال أيام قليلة بعد عملية الإنحياز , وكانت قيادة الأنصار تحرص على ألا تكون هناك أي نقطة تجمع للمقاتلين حتى لا يسهل استهدافها بالطيران .. ولكن اندفاع الجيش وبشكل كبير للضغط في جبهة العرقوب في "شقرة" وفي "حسان" من جهة زنجبار أدى إلى سقوط بعض القتلى فاضطر الأنصار للانحياز "للمحفد" وبسبب هذا الطارئ تجمعت أعداد كبيرة جدا من المجاهدين في إحدى الشعاب فجاء الطيران الأمريكي ليقتنص هذه الفرصة وقصف بكل ما لديه من صواريخ وقذائف وكان يقصف كل عشر دقائق إلا أنه وبفضل من الله "الحافظ" لم يقتل من الأنصار أحد وبذلك تمت آخر فصول الإنحياز بنجاح تام ولله الحمد والمنة ..
إلا أنه و بعد الانحياز من "وقار" بعدد من الأيام وكإجراء إحترازي تم بفضل الله وحده قطف رأس اللواء "سالم قطن".. و الحقيقة أن الكثيرين لا يعلمون ماذا تعني هذه الشخصية ويظنون أنه مجرد القائد العسكري للمنطقة الجنوبية, في حين أن خطورته ودوره أكبر من ذلك بكثير..
سالم قطن رجل عسكري من الطراز الأول , وهو من الزمرة التي انقلبت على الاشتراكيين و انضمت لعلي صالح وله نفوذ واسع في الدولة وقبلياً كذلك.. ومنصب قائد المنطقة الجنوبية ليس بشيء مقابل نفوذه الضارب بأطنابه في المجتمع اليمني والرجل ذكي وشجاع وذو شخصيته قوية .. دراساته الأكاديمية كانت في روسيا و له تجارب ميدانية جيدة..
الضربة الكبرى في مقتله كانت لعبد ربه منصور الذي كان يراهن عليه ليقدمه للأمريكان بديلاً عن "أحمد علي" لقيادة قوات الحرس الجمهوري تحت المخطط الشكلي لهيكلة الجيش.. وبحكم كون "قطن" جنوبي قبلي وبحكم كونه من قبيل العوالق أكبر قبائل شبوة وعلى ما يمتع به من صفات خادعة خبيثة فله نفوذ قبلي كبير عند العوالق.. فكان في مقتله كبح لشر أهل الشر من القبائل في شبوة عموماً وأبين.. والحمد لله الذي وفق لذلك وإلا لكان شوكة في حلق المجاهدين في شبوة وأبين.. وقد تزامن مقتله مع كمين قام به المجاهدون على حملة كانت متقدمة من "عتق" إلى "عزان" قرابة 12 دبابة و 25 طقم وعدد من الشاحنات التي تحمل الجنود والعتاد وتحت وقائع الكمين اضطرت الحملة للهرب والعودة إلى حيث جائت لا تلوي على شيء.. وحسب ما أعلن في الإعلام فقد قتل في هذا الكمين قائد الأمن المركزي بعتق عاصمة محافظة شبوة وعدد من الجنود.. وهذا التزامن بين الكمين في شبوة و اغتيال قطن في عدن فرض للمجاهدين قوة وهيبة في شبوة حتى بعد انسحابهم من مركزها "عزان" لدرجة أن قبيلة العوالق أكبر قبائل شبوة استأذنت من أمير أنصار الشريعة في شبوة والذي ينحدر من نفس القبيلة أن تقوم بدفن سالم قطن في وادي الصعيد مسقط رأسه . وبهذه الإجراءات الأخيرة من إغتيال قطن وضرب الحملات التي ترغب في التوغل إلى المناطق الداخلية يكون الأنصار قد أنهوا خطوات التأمين الإحترازي لما بعد عملية الإنحياز .
ونلاحظ هنا أن خطة الخداع التي ابتدأت بسلسلة العمليات العسكرية والإعلامية منذ فبراير الماضي إلى ما قبل ساعة الصفر من يوم الثلاثاء قد أدت إلى مباغتة العدو إرباكه بل وإلى عدم تصديقه لفترة من الوقت بأن العملية بالفعل كانت إنحياز كامل فمن يراجع تصريحات المسؤولين اليمنيين بعد العملية يدرك مدى التخبط الذي وقعوا فيه جراء الصدمة فهم من باب سعداء لأنهم دخلوا زنجبار ووقار بعد أن عجزوا عن ذلك بالقتال لأكثر من عام ومن باب آخر متوجسون ومرتعبون مما يمكن أن يحدث بعد ذلك !! فساحة الحرب الآن إنتقلت من ميادين الحرور والعرقوب لتشمل اليمن كله ومازالت ذكريات ميدان السبعين حاضرة في أذهانهم ثم جاءت عملية إغتيال " قطن" لتؤكد هذه المخاوف فآخر ما ترغب به الجيوش النظامية هي أن تكون فريسة لحروب لا متوازية ضد عدو ينهش فيها وهي لا تراه !
إلا أن دلالات الموقف تتعدى هذه المخاوف إلى مستويات أعلى منها بكثير فالمكاسب التي تحققت في فترة سيطرة أنصار الشريعة على أبين ووفرة الغنائم والموارد المالية ووصول العديد من المقاتلين والكوادر من خارج اليمن وانضمامهم لكتائب الأنصار وتخريج بعض الدفعات من معسكرات أبين كلها نقاط تؤكد على أن الجولة القادمة ستكون " أسخن " عسكريا وإن قام تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وهو اليد الضاربة لأنصار الشريعة وقرر الدخول في مرحلة " تصفية" للأهداف البشرية المهمة فلن يجد أمامه عوائق أمنية تذكر كشركات الحماية الأجنبية " بلاك ووتر" وأخواتها والتي كانت تحف وتحوط بالمسؤولين في العراق وأفغانستان !
وقد جاء في التاريخ العسكري عدة حوادث لجأت فيها القوات المنسحبة إلى مرحلة من التصفية ريثما تعود مجددا بعد أن تضعف بنية العدو العسكرية والتنظيمية ومنها على سبيل المثال ما فعله الجنرال الفرنسي " ديغول" في بداية الحرب العالمية الثانية عندما سحب قواته من أمام الجيوش الألمانية المدرعة ولجأ بمن سلم منها إلى بريطانيا ثم قام بتأسيس وزرع 8 منظمات إرهابية - إحدى هذه المنظمات كانت تحت إسم" منظمة إرهابيي فرنسا !! " - تعمل على كامل الأراضي الفرنسية وتشاغل الألمان بالإغتيالات والكمائن وقطع طرق الإمداد وغيره ريثما يتم ترتيب الحملة العسكرية لتحرير فرنسا وهو ما حدث بعد ذلك في الإنزال الشهير على السواحل الفرنسية في " النورماندي " .
محاكمة أنصار الشريعة
تعمد بعض البلدان إلى تأسيس لجان متخصصة للحكم على الإجراءات السياسية والعسكرية التي اتخذت من وقت لأخر كما يفعل الكونجرس في جلسات الإستماع وكما تم في لجنة " غرانت" الإسرائيلية في أعقاب حرب أكتوبر وغيرها ، ففي كل تلك الحالات يستدل القادة السياسيين والعسكريين بشواهد تاريخية تؤيد ما ذهبوا إليه من قرارات وبودي هنا أن نجري مثل هذه المحاكمة للمسار السياسي والعسكري الذي اتبعته أنصار الشريعة ووفق هذا الضابط التاريخي الذي لا يحابي أحدا على أحد .
والحقيقة أني أثناء استعادتي للتجارب التاريخية وجدت مثالين ناجحين وشبيهين إلى حد كبير بتجربة أنصار الشريعة من ناحية المسار الإستراتيجي قبل وبعد الإنحياز ، وسأبدأ أولا بعرض هذين المثالين ثم نأتي على تحديد وجه الشبه في الموقف العسكري والسياسي والإستراتيجية التي أتت لعلاجه .
الحالة الأولى : "ماوتسي تونغ" في الصين الشعبية
كتب روبرت غرين : بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج اليابانيين من الصين التي دخلوها في عام 1937 رأى القوميون الصينيون بقيادة "شيانج كاي شك" أنه الوقت المناسب للقضاء نهائيا على الشيوعيين خصومهم الألداء . كان القوميون قد اقتربوا من تحقيق هدفهم عام 1935 بعد أن أجبروا الشيوعيين على "الزحف الطويل" وهو الإنسحاب المرهق الذي قلل كثيرا من أعدادهم، على الرغم من تعافي الشيوعيين نسبيا أثناء الحرب مع اليابان إلا أنه كان لا يزال في الإمكان هزيمتهم فلم يكونوا يتحكمون إلا بمناطق نائية في الريف وكان عتادهم بدائيا ولم تكن خبرات عسكرية ولا يعرفون طرقا أخرى غير قتال الجبال ولم تكن لهم قواعد إلا في بعض المناطق من منشوريا استولوا عليها بعد خروج اليابانيين ، خطط "شيانج" أن يخصص أفضل قواته لاسترداد كبرى مدن منشوريا واتخاذها كقواعد للإنتشار إلى المناطق الشمالية الصناعية ليسحق الشيوعيين للأبد .. سارت الخطة نبجاح كبير في العامين 45 و1946 واستولى القوميون بسهولة على مدن منشوريا لكن رد الشيوعيين على ذلك كان محيرا للغاية ، فمع تقدم القوميين كان الشيوعيون ينتشرون في الأنحاء النائية والبعيدة من منشوريا ! وبدأت وحداتهم الصغيرة تناوش جيوش القوميين وتنصب لهم الكمائن ثم تنسحب دون نمط محدد ،ولم تجتمع هذه الوحدات في مكان واحد أبدا وجعل ذلك مهاجمتهم مستحيلة ،كان الشيوعيون يسيطرون على مدينة ثم يتركونها بعد أسابيع قليلة ، لم يكونوا جيشا له اتجاه للتقدم أو قواعد يرتد إليها بل كانوا ينسابون كالزئبق دون نمط محدد فلا يمكن التنبؤ أبدا بأماكنهم !
فسر القوميون ما يفعله الشيوعيون بأمرين : الخوف من مواجهة قوات القوميين التي تتفوق عليهم في العدد والعتاد ، وعدم خبراتهم في استراتيجيات القتال .. لكن ظهر بعد فترة المغزى من أسلوب "ماوتسي" فبعد أن استولى القوميون على المدن وتركوا للشيوعيين الأطراف التي اعتبروها بلا فائدة بدأ الشيوعيون يستغلون هذه الأطراف الشاسعة لإعداد الهجمات لحصار المدن وإذا أرسل "شيانج" جيشا من مدينة لإنقاذ مدينة أخرى كانوا يحاصرون جيش الإنقاذ . بدأت قوات شيانج في التفتت إلى وحدات صغيرة منعزلة وانقطعت خطوط إمدادهم واتصالاتهم ، كان لا يزال لدى القوميين التفوق في القدرات العسكرية ولكن ما كانت فائدتها طالما لم يعودوا قادرين على التحرك ؟ أخذ القوميون ينهزمون في قلوبهم وكانت مدنهم تسقط حتى قبل أن تهاجم ،وبسرعة أخذت تتساقط بالفعل مدينة بعد أخرى،في نوفمبر 1948 سلم القوميون منشوريا للشيوعيين وكانت ضربة مهينة لجيش القوميين المتفوق تقنيا والذي أثبت كفاءته في الحرب مع اليابانيين وفي العام التالي سيطر الشيوعيون على كل أنحاء الصين.
التعليق : نلاحظ في هذا المثال التاريخي أن القائد الصيني الشهير "ماوتسي تونغ" قام باستثمار سقوط الدولة الصينية تحت الإحتلال الياباني لصالح إخراج المشروع الشيوعي إلى "العلن" فقام بالسيطرة على إقليم "منشوريا" وبدأ بنشر تعاليم الشيوعية لأول مرة بشكل رسمي ودون خوف أو تشويه من السلطات الحكومية ، ثم لما آلت الأمور لصالح الجيش الحكومي بعد هزيمة اليابان قام ماوتسي بذلك الإنسحاب التكتيكي الذي حير أعدائه كثيرا واستثمر قدراته البشرية والفنية التي إزدادت بعد مرحلة السيطرة على منشوريا في إحكام الحصار النفسي والإستراتيجي الذي فرضه على القوات الحكومية فأدى ذلك في نهاية المطاف إلى إنسحاب الجيش الحكومي من ذلك الإقليم وعودة قوات الشيوعيين إليه وهذا هو نفس المسار الإستراتيجي الذي اتبعه أنصار الشريعة منذ البداية .
الحالة الثانية : الصحابة في فتوح الشام
ذكر المستشرق الإنجليزي "ألفرد جيوم" في إحدى كتاباته : أن الشعوب في مصر والشام والعراق وغيرهم استقبلت المسلمين بالترحاب لأنهم خلصوهم من الإبتزاز الإمبراطوري الروماني والفارسي.إنتهى. وقد اختصرت هذه العبارة عاملا من أهم العوامل التي ساعدت على إنجاح حركة الفتوح الإسلامية في الشام وبقية البلدان ، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفتحون البلدان والقلوب في آن واحد ، فإن خسروا الأولى تبقى معهم الثانية ، فتلك الشعوب التي لم تتعود إلا الإستعباد والذل والمهانة من الأنظمة التي كانت تسوسها أو من تلك التي تستعبدها بعد الإحتلال انبهرت بالنظام الإسلامي القائم على العدل والرحمة وإعطاء كل ذي حق حقه وإن كان من غير المسلمين ومن هذا ما حدث في الشوط الثاني من فتوحات الشام فعندما حشد هرقل حملته العسكرية الضخمة لاسترداد الشام والتي بلغ قوامها 200 ألف جندي قرر المسلمون الإنسحاب من حمص لقربها من الجيش الروماني فقام المسلمون حينها برد الجزية كاملة لأهل حمص لعدم تمكنهم من حمايتها فتأثر أهل حمص كثيرا وقالوا : "قاتل الله من كان يحكمنا من الرومان والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا شيئا ، أعادكم الله إلينا سالمين" . ثم توالت الإنسحابات بعد ذلك من دمشق إلى الجابية ثم إلى المحطة الأخيرة في "أذرعات" وقد كانت الجيوش الرومانية الجرارة في هذه الآونة تدخل تلك المدن التي تم الإنسحاب منها فتعيث فيها فسادا ، وهذا ما جعل أهل تلك الديار يقارنون ما كانوا فيه أيام حكم المسلمين وبين ما عادوا إليه من الظلم والجور ، فمع أن قرار الإنسحاب من تلك المدن كان صعباومؤلما على المسلمين إلا أن الذكريات التي تركوها خلفهم كانت كفيلة بتسهيل عودة المسلمين لتلك المدن بعد إلحاق الهزيمة بالحملة الرومانية وهذا ما حدث بعد المعركة الفاصلة في "اليرموك" ، فأهالي تلك المدن لم يقدموا أي إسناد يذكر للأرتال الرومانية المنسحبة من اليرموك كما يحصل عادة لمن يمتلك مناطق خلفية موالية ، وهذا ما جعل الرومان يكملون الهزيمة إلى خارج الشام وبلا رجعة .
التعليق : مما يذكر في هذه الحادثة التاريخية أن عمليات الإنسحاب التي تمت من حمص ودمشق والجابية لم تكن على رأي كبار القادة كأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد اللذين فضلا البقاء في المدن وعدم التخلي عنها ومع ذلك نزلا على رأي الشورى وقد وافقهما عمر بن الخطاب الرأي عندما وصله خبر الإنسحاب في رسالة وجهها أبو عبيدة إليه فعندما نظر عمر في الرسالة قال ( لماذا يتركون أرضا فتحها الله عز وجل عليهم إن هذا يجرئ عدو الله عليهم ! ثم قال للرسول : هل رأيتهم اجتمعوا على ذلك ؟ فقال:نعم ،فقال عمر : أرجو أن يكون الله قد جمعهم على الخير ) وهذا الشعور بالإستياء والمرارة من التخلي عن المدن بعد فتحها هو نفس الشعور الذي ساد عند بعض القادة والجند من أنصار الشريعة إلا أن اطمئنان الجميع لبركة الشورى كفيل بمحو تلك المشاعر بإذن الله والذي يهمنا في هذا المقطع التاريخي هو أن نلاحظ الفائدة الإستراتيجية التي ترتبت على فترة الحكم الإسلامي في مدن الشام الذي تم الإنسحاب منها ، فهذه التجربة القصيرة شكلت نموذجا فريدا في الحكم والإدارة فتطلعت إليه النفوس عندما سمعت به وتمنت عودته عندما غاب عنها وهذا هو عين الهدف الذي وضعه الأنصار نصب أعينهم أثناء السيطرة على مدن أبين ، فالنموذج الذي قدمه أنصار الشريعة في وقار وشقرة وعزان وغيرها تشوقت إليه بقية المناطق التي كانت تعاني من نفس المشاكل التي تعافت منها تلك المدن وهذا ما جعل أهل بعض تلك المدن يعترض على انسحاب أنصار الشريعة منها ويخرج البعض الآخر في مظاهرات تطالب بعودتهم بعد الإنسحاب الذي تم ولسان حالهم يقول كما قال أهل حمص من قبل { أعادكم الله إلينا سالمين }.
وكما قال الشاعر شيبة الحمد يصف شوق "وقار" للأنصار :
للـه أحبـاب أحـن إلـيهـمـو
كانـوا زهـور الـروض فـوق تـرابـي
آثـارهـم حـسنـى ونـفـح غبـارهـم
مسـك وحسـن فعـالهـم ألـقـابـي
خاتمة ..
قبل عام ونصف من الآن كنا بضع مئات من المجاهدين المطاردين بلا مشروع سياسي أو هوية معروفة بين الناس سوى ما كان يبثه إعلام علي عبدالله صالح ونحن الآن أكثر عددا وأقوى عدة والمهم أننا اكتسبنا حاضنة شعبية غير قابلة للإختراق بالريال والدرهم أما الأهم فكوننا الآن نمثل تيارا شعبيا رأى وعايش مشروعا إسلاميا متكاملا في الإدارة والحكم وهو الآن يقارنه بالأوضاع المزرية التي عادت من حوله ، وهو الآن يترقب تلك العودة ويعيش على أملها كما ترقب أهل الشام عودة الصحابة إليهم . . فهذا الفتح الذي حصل لتلك القلوب وهذه القناعات الجديدة التي تشكلت جراء تلك التجربة الفريدة هي من جنس تلك المعاني التي أبهمت وسط غبار خيول المسلمين يوم مؤتة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم : "فتح" ، وأبهمت بين ثنايا صلح الحديبية فسماها الله عز وجل في كتابه الكريم : "فتحا مبينا" .
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
عبدالله بن محمد
21رمضان1433
جزيرة العرب
ملاحظة : سأبدأ بعون الله في متابعة الأحداث عبر تويتر منذ اليوم على العنوان التالي :@Abdllh_bn_m7mmd
والصلاة والسلام على الضحوك القتال
[ محاكمة أنصار الشريعة ]
مع بداية بزوغ فجر الثلاثاء 22 رجب 1433 وانسحاب الليل تدريجيا من على جبهة الحرور وزنجبار في منطقة "أبين" بدأت فرق الإستطلاع في الجيش اليمني تؤكد لقيادتها الميدانية وفي تقارير متتالية خلو مسرح العمليات من أي أثر لمقاتلي أنصار الشريعة ! فلا مراكز متقدمة ولا حركة آليات ولا نقاط رصد فقط هدوء غريب وسكون تام .. سكون لم تبدد سكناته سوى صرخات السفير الأمريكي في وجه المسؤولين في صنعاء : كيف تم ذلك ؟ وماذا يعني ؟ أين ذهبوا بحق السماء ؟؟
الحقيقة أني لا ألوم مستر " فايرستاين" على صرخاته تلك والتي بالتأكيد قد تلقى شيء لا يقل عنها توبيخا من البيت الأبيض فعملية الإنسحاب المفاجئة لأنصار الشريعة من مدن أبين وشبوة قد أربكت جميع مكونات الصراع وغيرهم أيضا من المؤيدين والمحايدين والمراقبين والمحللين والعامة .. فالجميع كان يسأل لماذا تم الإنسحاب وفيما كانت السيطرة إذن وماذا يمكن أن يحدث ؟
وقبل أن أكشف عن التفاصيل المثيرة لمخطط الإنحياز الإستراتيجي من مدن زنجبار ووقار وشقرة والتي تنشر لأول مرة بودي أن أعرج على نقطة غاية في الأهمية لفهم حقيقة ما حدث في "أبين" فأي معركة صغيرة أو كبيرة لا يمكن فهمها أو تقييمها عسكريا دون تصنيف الحدث نفسه من حيث كونه هزيمة أو انتصار .. ولذا سنحاول أن نتعرف أولا على طبيعة الإنسحاب في الحرب ومتى يكون انتصارا طبقا للمعايير العسكرية المتعارف عليها .
الإنسحابات الناجحة
سجل التاريخ العسكري القديم والمعاصر حافل بالكثير من الإنسحابات العسكرية منها ما يصنف على أنها انسحابات ناجحة كالإنسحابات الشهيرة التي خطط لها ونفذها الجنرال الأمريكي " ماك آرثر" من جزر شرق آسيا في الجولة الأولى من الحرب العالمية الثانية عندما رجع بقواته لأكثر من 2000 كيلو متر عبر جزر المحيط الهادي ثم عاد كالطوفان بعد ذلك حتى أرغم اليابانيين على توقيع إتفاقية الإستسلام في نهاية الحرب .
وكإنسحاب الجيوش الأوربية من ميناء " دنكرك" الفرنسي بعد أن اجتاحت فرق "البانزر" الألمانية الأراضي الفرنسية ونجاحها في اختراق خطوط الدفاع في بلجيكا وشمال فرنسا بطريقة أذهلت الجميع - الحرب الخاطفة - فعند هذا الموقف أصبح هناك ما بات يعرف تاريخيا بالسباق نحو البحر لأن الساحل الفرنسي هناك كان يضم ميناء دنكرك وهو الميناء الوحيد والفرصة الأخيرة التي يمكن أن تنقذ الحلفاء من الوقوع بين فكي الكماشة الألمانية .. والحق أن الإنجليز أظهروا رباطة جأش وحسن تنظيم لعمليات الإنسحاب عبر ذلك الميناء والتي أسفرت عن إنقاذ أكثر من 300 ألف جندي إنجليزي وفرنسي وبلجيكي في أقل من 40 يوم تحت القصف الشديد .
وتندرج تحت هذه القائمة الإنسحابات المتقنة التي نفذها ثعلب الصحراء "رومل" على طول الطريق الساحلي من العلمين غرب مصر إلى تونس بالرغم من سوء الظروف التموينية التي كان يمر بها الفيلق الإفريقي الذي كان تحت قيادته ومازالت تكتيكاته تلك تدرس في الكليات والمعاهد العسكرية .
ونلاحظ هنا أن كل تلك الإنسحابات التي صنفت على أنها " عمل عسكري ناجح " قد وضعت على أساس إنقاذ " الكتلة البشرية " كهدف أصيل أي أن الصراع في هذه النقطة من الحرب كان يدور حول القضاء أو الحفاظ على الكتلة البشرية دون أي اعتبار مهم لكسب أو فقد الأراضي عن أطراف النزاع لأنه بخسارة الكتلة البشرية تخسر الفرصة للإستمرار في الحرب ، ولذا نرى أن الحلفاء في دنكرك وماك آرثر في المحيط الهادي ورومل في شمال إفريقيا اعتبروا " منتصرين" تكتيكيا عندما حافظوا على جيوشهم من الهلاك أو الوقوع في الأسر ومع أن الحالة الأخيرة مع رومل قد أسر فيها الجيش بأكملة في نهاية المطاف عندما حصر في تونس إلا أن عملية الإنسحاب نفسها منذ البداية حتى النهاية كانت ناجحة وبشهادة أعدائه .. وفي المقابل نرى أن اليابانيين في المحيط الهادي والألمان في دنكرك والإنجليز في شمال إفريقيا اعتبروا " مهزومين" تكتيكيا لأنهم أخفقوا في القضاء على أعدائهم مع أنهم يملكون أفضلية الإندفاع الهجومي .
الإنسحابات الفاشلة
هي أكثر من أن تحصى ومنها على سبيل المثال الإنسحابات التي نفذها الجيش العثماني من فلسطين وبقية مناطق الشام فنجاح الجيش الإنجليزي بقيادة "اللنبي" في قطع طرق الإمداد والإنسحاب الآمنة للعثمانيين من جهة وقيام الميليشيا والقبائل العربية بضرب تلك الفرق المنسحبة من الخلف أدى إلى فوضى عارمة في صفوف الجيش العثماني مما أدى إلى وقوع أفراد ذلك الجيش بين قتيل وأسير وطريد لا يلوي على شيء !
ومن الإنسحابات الفاشلة أيضا ما حدث مع الجيش المصري في حرب 1967 عندما نجح الطيران الإسرائيلي في السيطرة على الأجواء المصرية بعد أن تمكن من تدمير سلاح الجو المصري وهو رابظ على الأرض في عملية مباغتة أطلق عليها "ضربة صهيون" فعندما أدركت القيادة المصرية أن جيشها في سيناء بلا غطاء جوي حصلت حالة من الإرباك زادت حدتها مع اندفاع الألوية الإسرائيلية المدرعة في عمق سيناء فعند هذه اللحظة وتحت ضغط أرقام القتلى والإصابات المتزايدة وأمام هاجس الخوف من تدمير جسور قناة السويس وهي طريق العودة الوحيد للجيش أعطى المشير عامر عبدالحكيم قرار الإنسحاب لجميع الوحدات المقاتلة في سيناء ولكن الخطأ الإجرائي الذي وقع فيه هو أن القرار قد صدر دون خطة لتنظيم حركة انسحاب الجيش فعملية انسحاب سريع لجيش يبلغ تعداده أكثر من 100 ألف جندي بآلياتهم وعتادهم العسكري تحتاج وطبقا لتقديرات قيادة أركان الجيش المصري آنذاك لمدة لا تقل عن ثلاثة أيام بينما المشير قد أصدر قرارا بالإنسحاب الفوري وهو ما تسبب في تزاحم الفرق العسكرية على خط الإنسحاب الممتد من العريش إلى القناة دون أي غطاء من قوات الدفاع الجوي وفي ظل سيطرة الطيران الإسرائيلي على الأجواء فوق سيناء مما جعل من تدمير معظم تلك الأرتال عملية سهلة للطيران الإسرائيلي .
ومن الإنسحابات الفاشلة والكارثية كذلك ما حدث في عملية " عاصفة الصحراء" عندما قرر صدام حسين سحب قواته من الكويت بعد أن أنهكتها الحملة الجوية وبعد أن اخترقت قوات التحالف خطوط الدفاع التي أقامها على الحدود الكويتية السعودية ، فتحت ضغط الموقف أعطى صدام حسين قرارا بالإنسحاب العام فتكدست نتيجة لذلك القوات العراقية المنسحبة على جنبات طريق " المطلاع" وهو الطريق الوحيد المؤدي إلى الحدود العراقية وقد كان الأمريكان وطبقا لمذكرات " شوارزكوف " قائد قوات التحالف كانوا قد درسوا مثل هذه الإحتمالية وقرروا مسبقا تدمير أي قوات عراقية منسحبة من خلال هذا الطريق حتى يفقد صدام حسين معظم قواته التي شاركت في عملية الغزو فيخسر بذلك جزء كبير من تعداد جيشه وهو ما حدث بالفعل على طريق المطلاع الذي أطلق عليه بعد ذلك " طريق الموت".
ونلاحظ هنا أن كل تلك الإنسحابات التي صنفت بإجماع المعلقين والنقاد العسكريين على أنها " عمل عسكري فاشل " قد وضعت أساسا لإنقاذ الكتلة البشرية كهدف أصيل لهذه العتبة الحساسة من الحرب ولذلك ينطبق على أطراف الصراع هنا وصف " منتصرين " أو " منهزمين " تماما كما قررناه في فقرة الإنسحابات الناجحة فلو تم انسحاب الجيش العثماني بسلام لاحتفظ بتوازن قواه الإقليمية على الأقل ولو أنقذت القيادة المصرية الجيش من الهلاك لتغيرت معادلة الحرب آنذاك ولو نجح صدام حسين في سحب قواته لما خسر شيئا من عملية الغزو ! ولكن الجميع أخفق في إدارة إنسحاب مثالي يظمن سلامة قواته التي سيستمر من خلالها في فرض نفسه على ساحة الحرب .
انسحاب "مؤتة" هزيمة أم إنتصار ؟
هناك إنسحابات عسكرية اختلف في تصنيفها من حيث وصفها كعمل عسكري ناجح أو فاشل وهذا ينبع من عدم وضوح المعنى الكامن خلف العملية وما تمثله من تأثير في مجريات الحرب ككل ،ومرجع الخلاف يكمن في طبيعة تناول الحدث فبعض المؤرخين يتناولون الحدث التاريخي كما هو وبأرقامه ونتائجه المباشرة أما البعض الآخر ممن يمازجون بين السرد والنقد فيتناولون مثل هذه الأحداث بالمنهج التحليلي الذي يربطون به الحدث بالمسار العام للأحداث أو بظروف الموقف وظلاله وتأثير الحدث فيه .
ومن أشهر الإنسحابات التي اختلف المؤرخون في تقييمها أو تصنيفها هو الإنسحاب الكبير الذي نفذه خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة "مؤتة" فقد تباينت آراء المؤرخين حول نتيجة تلك المعركة التي انتهت بذلك الإنسحاب ومرجع الخلاف كما قلنا يكمن في طبيعة تناول الحدث أما الحق الذي لا مرية فيه فسيتبين بمجرد تناول قائمة الأهداف والفوائد التي خرج بها المسلمون من هذه الغزوة المباركة .
غزوة مؤتة كانت عبارة عن حملة تأديبية كرد فعل من الدولة الإسلامية على مقتل مبعوثها "الحارث بن عمير" الذي قتل على يد الغساسنة حلفاء دولة الروم في شمال الجزيرة العربية ولذا اقتصر تعداد الجيش على ثلاثة آلاف مقاتل بعكس الجيش الذي أرسل بعد ذلك بعامين في غزوة تبوك وضم قرابة الثلاثين ألف مقاتلا ،واقتصرت مهمة الجيش في هذه الحملة على تأديب الغساسنة وإثبات وجود وقوة الدولة الإسلامية واستعدادها التام للدفاع عن رعاياها وبث روح الهيبة بين القبائل المجاورة والحذر من التعرض للمسلمين بالأذى ولو كان ذلك الأذى على شخص واحد فقط كالحارث بن عمير ، إلا أن هذه الحملة قد جوبهت بتحالف ضخم يضم مئتي ألف مقاتلا من الجيوش الرومانية جيدة التسليح ومن التشكيلات المحلية لقبائل لخم وجذام والغساسنة .
وكانت المعجزة الأولى هنا هي في قبول الجيش المسلم لهذا التحدي الكبير ودخوله إلى المعركة أمام هذه الزحوف المرعبة مما دل على ارتفاع الروح المعنوية للجيش المسلم وقوة إيمانه بالله عز وجل وصدق توكله عليه وهذه الجرأة بحد ذاتها قد فتت بعضد قوات التحالف فلم يسبق في تلك العصور ولم يكن معهودا بالمرة أن تأتي حملة عسكرية بهذا العدد المتواضع لتقف أمام تلك الأمواج من الجحافل المهولة حيث كانت نسبة الجيش المسلم 1.5 بالمئة من تعداد أعدائه !
أما المعجزة الثانية فتمثلت بثبات الجيش المسلم في الميدان طوال فترة القتال العنيف ليومين على التوالي ولا أدل على عنف و شراسة القتال في تلك الم* من مقتل القادة الثلاثة الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتناوب وقد ورد أيضا عن خالد بن الوليد أنه قد تكسرت في يده تسعة أسياف في تلك المعركة وهذا الثبات المستميت في الميدان قد زعزع ثقة ذلك التحالف في نفسه فهم لا يواجهون إلا حملة تأديبية وعلى مسافة بعيدة من الدولة الإسلامية فكيف لو اجتمعت قوة المسلمين عليهم أو لو تورطوا بالدخول إلى المناطق الداخلية للمسلمين !
فمثل هذه الإنطباعات تبقى راسخة في أذهان القادة العسكريين سواء عند الرومان أو حلفائهم حتى وبعد أن ينقضي غبار الم* وهذا ما يفسر عدم لجوء قوات التحالف إلى مطاردة الجيش المسلم الذي انسحب بعد ذلك .
أما المعجزة الثالثة فهي ذلك الإنسحاب العبقري الذي قام به خالد بن الوليد وخطط له فور توليه زمام القيادة فقد قدر خالد بن الوليد وهو أخو الحروب الذي لم يهزم في إسلام ولا في جاهلية والذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة بأنه "سيف الله المسلول " قد أنه لا يمكن الإستمرار في مجابهة ذلك التحالف الضخم فكثرة الإصابات في صفوف الجيش المسلم ستضعفه مع الوقت مع ماهو فيه من قلة عدد وحينها ستختل صفوف المسلمين ومن ثم تسحق تحت اندفاع تلك الجيوش الجرارة وأن العدو وطبقا لأحداث القتال الذي شهده خالد منذ البداية يحرص على استثمار تفوقه العددي للوصول إلى تلك النقطة في الأيام القادمة ولذا قدر خالد بن الوليد أن الحفاظ على سلامة الكتلة البشرية والإنسحاب بها سيقطع الطريق على الفرصة الوحيدة التي صبر من أجلها التحالف الروماني للقضاء على الجيش المسلم ولكي يغطي على عجزة عن ذلك طوال فترة القتال بالرغم من تفوقه العددي .
فوضوح الموقف العسكري عند خالد وما يمكن أن ينتج عنه جعله يأخذ قراره الحاسم بالإنسحاب حتى يحافظ على المكتسبات التي تحققت في قبول المسلمين للمعركة بكل شجاعة وبلا تردد وتحديهم لغطرسة القوى الإقليمية والدولية آنذاك وأخذهم بثأر الحارث بن عمير بعد أن أثخنوا في الروم والغساسنة ومن معهم والهيبة التي اكتسبها المسلمون جراء ذلك فكل هذه المكتسبات قد تنعدم إن نجح التحالف في القضاء على الجيش المسلم ومن أجل هذا الإعتبار أخذ خالد يرتب منذ اللحظة الأولى لتوليه القيادة لعملية الإنسحاب التي علق عليها كثير من النقاد والمحللين في الشرق والغرب قديما وحديثا بأنها عملية " مستحيلة " ومختصر ما جاء في كتب السيرة والغزوات والبحوث التي تناولت هذه العملية أن خالد بن الوليد اعتمد على " خطة خداعية " يسحب من خلالها كتائبه المقاتلة ويفك الإشتباك مع العدو دون أن يلحظ العدو حقيقة ما يحدث وذلك عبر أربع إجراءات تكتيكية فأولا أمر خالد بأن تظل الخيل طوال الليل تجري في حركة دائبة لتثير الغبار ثم في الصباح الباكر قام بتغيير تشكيلة الجيش فجعل الميمنة ميسرة وبالعكس والمقدمة مؤخرة وبالعكس فظن التحالف الروماني أن المسلمين قد أتاهم مدد الليلة الماضية فحبطت معنوياتهم جراء ذلك ثم وضع خالد عددا من الجنود على مسافة على إحدى التلال خلف الجيش لإثارة الغبار أيضا فتأكد الظن عند الرومان بأنه مدد متواصل وأخيرا أخذ خالد يتراجع بالجيش تدريجيا إلى الصحراء فشك الرومان بأنها خديعة لما ربطوا ذلك بالإشارات التي رصدوها من الغبار البعيد والمدد الجديد فنجح خالد في سحب الجيش بدون اشتباك وفي تجميد الجيش الروماني في مكانه .
ونلاحظ بعد هذه الغزوة أن عامة المسلمين قد تعاملوا سلبيا مع نتيجة المعركة وفهموا على أنها هزيمة ولذا خرج بعض الصبيان على مشارف المدينة ليرموا الجيش العائد بالحجارة ويصمونه بالجبن والهرب بل إن من أوساط ذلك الجيش من تسرب إليه ذلك الشعور فرد النبي صلى الله عليه وسلم تلك التهمة وقال ( ليسوا بالفرار بل هم الكرار إن شاء الله )
وهذا الشيء يمثل نمط التفكير التلقائي عند الجمهور الذي يتعامل مع النتائج المباشرة ولا يتمكن من رؤية شيء غيرها أمامه وهو من جنس الفهم الذي ساد بين الصحابة في رؤيتهم لصلح الحديبية فقد رأوا في بادئ الأمر أن ذلك الصلح غبنا لهم ومكسبا لأعدائهم من قريش ولذلك قال عمر بن الخطاب " لم نعط الدنية في ديننا " ثم نزل قوله تعالى { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } فقال الصحابة : أفتح هو ؟ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم : إي وربي إنه لفتح .
ونفس هذا الشعور بالحسرة والإستياء والهزيمة قد تكرر مع عملية الإنسحاب التي قام بها خالد بن الوليد في مؤتة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر بنص قاطع لا يتطرق إليه شك بأن نتيجة هذه المعركة ستكون " انتصارا " لصالح الجيش المسلم فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم مؤتة وهو في المدينة ( أخذ الراية زيد فأصيب فأخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ..وعيناه تذرفان، حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ) ونلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف نتيجة المعركة التي تمخض عنها ذلك الإنسحاب بأنها " فتح " وأن هذا الفتح سيكون على يد خالد بن الوليد بالذات والمعروف والمثبت أن خالد لم يصدر أي قرار عسكري بعد توليه القيادة سوى ذلك الإنسحاب الذي خطط له بنفسه فكيف يعقل إذن أن يكون ذلك الإنسحاب العبقري هزيمة !!
ونستطيع الآن وبعد هذه المقدمة في طبيعة الإنسحابات وما تمثله من قيمة عسكرية في مسار الحرب أن نحكم على عملية الإنسحاب التكتيكي التي قام بها أنصار الشريعة من مدن محافظتي أبين وشبوة أثناء الحملة العسكرية المشتركة من القوات الحكومية والأمريكية والبريطانية والفرنسية والسعودية بالإضافة إلى مرتزقة اللجان الشعبية ونستطيع من ثم أن نحكم وبكل وضوح على هذه العملية بل وأن نستشرف المستقبل وفقا لذلك وسآتي أولا على ذكر ظروف وتفاصيل العملية منذ بداية نشوء الفكرة والتخطيط لها حتى إعطاء كلمة السر الخاصة بالتنفيذ يوم الثلاثاء 22 رجب وما حدث بعد ذلك .
فأقول وبالله التوفيق أن فكرة السيطرة على " أبين" قامت على أساس إستثمار ومعالجة الأوضاع التي سادت في اليمن بعد اندلاع الثورة فبعد أن سقطعت بعض محافظات الشمال في يد الحوثيين ومناطق أخرى بيد القبائل والأحزاب وانتشرت الفوضى والسلب والنهب وقطع الطريق في أجزاء أخرى من اليمن خرجت الحاجة لمشروع تتظافر فيه جهود المجاهدين مع إخوانهم من أبناء وقار وزنجبار وشقرة وغيرها ليتعاون الجميع في ضبط الأمن وإيقاف المظالم التي كانت تمارس باسم الدولة والأهم من هذا وذاك هو أن تتاح الفرصة أما عامة الناس ليعيشوا تحت ظلال الشريعة الإسلامية وليجدوا فيها كل ما فقدوه في الأنظمة السابقة من عدل ورحمة ومساواة .
وهذه هي النقطة التي جعلت أمريكا تدخل على الخط وبكل قوة للحيلولة دون نجاح ذلك ، ففي الوقت الذي بدأ فيه أنصار الشريعة بتأسيس النظام الإسلامي في مناطق الحكم بدأت الرحلات الم****ة لقائد القوات المركزية الأمريكية ومستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الإرهاب بالإضافة إلى التحركات الداخلية للسفير الأمريكي بهدف لملمة الوضع وبذل ما يمكن من جهود للحيلولة دون سقوط النظام بفعل الثورة وتداعياتها ونتج عن ذلك دعم إتفاقية " المبادرة الخليجية" وريثما تتم عملية انتقال السلطة اكتفى الأمريكان بجر الجيش اليمني بشقيه المؤيد والمعارض للثورة بوجه أي تقدم لأنصار الشريعة بينما يتولوا هم وعن طريق الطائرات بدون طيار بالإضافة للطيران اليمني والسعودي مهمة قصف المراكز الحيوية في وقار وزنجبار وغيرها في محاولة مستمرة لإفشال أي تقدم يحرزه أنصار الشريعة على صعيد إدارة المناطق ، وعندما نجح الأمريكان في مخادعة الشعب اليمني والإلتفاف على ثورته ونقل السلطة لنائب الرئيس أدرك أنصار الشريعة خطورة ذلك عليهم خاصة بعد أن تعهد الرئيس الجديد "عبدربه منصور" وفي أول خطاب رئاسي له بأن يحارب تنظيم القاعدة وبلا هوادة !
فعند هذه اللحظة انتقل الموقف العسكري من مجرد قبول المعركة والثبات في الميدان والذي استمر طوال العام الماضي أمام تحالف متفوق عدديا وتقنيا بشكل كبير انتقل إلى تحدي آخر من أجل الحفاظ على الكتلة البشرية التي لا يمكن الإستمرار في الحرب بدونها .
ومن أجل وضوح هذه الرؤية عند قيادة الأنصار اتخذ قرار الإنحياز عن مناطق السيطرة في وقت مبكر وفي شهر فبراير على وجه التحديد ففي نفس الوقت الذي استلم فيه عبد ربه منصور مقاليد الحكم في صنعاء استلم القائد العسكري " قاسم الريمي" مهمة إدارة عملية الإنحياز والإشراف على التجهيزات اللازمة لذلك وبدأ حينها العمل من خلال مخطط متكامل لتهيأة ظروف واحتياجات الإنسحاب المرتقب فمن جهة أمرت القيادة بزيادة وتيرة ونشاط العمليات العسكرية في جميع الإتجاهات في حضرموت والبيضاء وعدن وغيرها لإشغال العدو وخلط الأوراق عليه ولتشتيت انتباهه عما يحدث في الخلف ومن الجهة الأخرى كان العمل على قدم وساق لتجهيز كل ما يحتاجه الأنصار لتسهيل وتأمين عملية الإنحياز ومن أهم ذلك العمل على تأليف قلوب أمراء ووجهاء القبائل الذين سيحتاج الأنصار لخدماتهم لاحقا فقد كان أكبر هاجس عند القيادة هو أن يحصر الأنصار في "أبين" ولذا كان من المهم كسب ود تلك القبائل لتسهيل الدخول والخروج عن طريقها وبغطاء منها ومن ذلك قبول شفاعة مشايخ قبائل أبين في قضية أسرى عملية " قطع الذنب" التي أسر فيها أكثر من 70 جندي يمني فتم إطلاق سراحهم إكراما للمشايخ وقد كان لهذه الخطوة ومثيلاتها أثر جيد في توطيد العلاقة مع قبائل أبين خاصة أحور آل باكازم والمراقشة - قبائل أمير أبين حمزة الزنجباري جلال المرقشي - وهذا من جهة تأمين الحاضنة أما من جهة تأمين الممرات والطرق فقد تم رصد جميع الطرق التي يمكن أن تكون منافذ صالحة في حالة الحصار المطبق .
سر معركة لودر
في الوقت الذي كانت فيه الإستعدادات جارية لتجهير عملية الإنحياز المرتقبة جاءت معلومات استخباراتية كشفت في وقت مبكر عن أهم معالم الحملة العسكرية التي يجهز لها العدو منذ انتقال السلطة للرئيس الجديد فقد كانت خطة العدو القيام بعملية هجومية ضخمة على وقار وشقرة من عدة محاور أهمها من جهة " لودر" ولذا قام أنصار الشريعة وقبل بدء تلك الحملة بفترة طويلة قاموا بهجوم استباقي على مراكز العدو في لودر وذلك بقصد تثبيت خط قتالي هناك يحرم العدو من فرصة استخدام هذا المحور بل إن العدو ومع الأيام اقتنع بعدم جدوى ذلك بسبب شراسة الم* التي استمرت لمدة شهرين وتكبد فيها خسائر فادحة وقد كان للهجوم على لودر فوائد أخرى بفضل الله كالسيطرة على مواقع كتيبتين للجيش الحكومي بما فيها من آليات وأسلحة وعتاد وكتأديب اللجان الشعبية هناك فقد تلقت تلك اللجان درسا قاسيا حتى بات الناس يقولون " لانعمل لجان فيأتوا لنا في ليل مظلم مثل ما حدث لأصحاب لودر !! "
وبالعموم لم يكن الهدف من القتال في لودر السيطرة عليها بقدر ما كان لإشغال العدو ومنعه من التقدم من هناك ولذا اكتفى الأنصار بالمناوشة بالمدفعية لتثبيت الخط هناك ثم تم الإنحياز من أطراف لودر في منطقة " العين" إلى الخلف قرابة 15 كيلو فقط إلى منطقة "العرقوب" وقد كانت منطقة حصينة إنحاز المجاهدون إليها بكل عتادهم وعدتهم ولم يتركوا ورائهم ولو مسمارا واحدا ! وبسبب ذلك لم يجرء العدو على التحرك إليها إلا بعد فترة طويلة بسبب تخوفه الشديد من تكرار ذكرياته السيئة في م* لودر .
بداية الحملة العسكرية
في هذه الفترة كانت الم* قد اندلعت حول وقار وزنجبار فقد حشد الجيش اليمني أكثر من 25 ألف جندي حول ساحة القتال مدعوما ببعض مرتزقة اللجان الشعبية وبالطيران السعودي وبإسناد مدفعي صاروخي من البارجات الأمريكية والفرنسية والبريطانية المتمركزة في خليج عدن وبرصد مستمر من الطائرات الأمريكية بدون طيار التي أنشأت لها قاعدتين في دول الجوار لإدارة الطلعات منها وقد تميزت هذه الحملة بحشد أفضل الخبرات العسكرية في اليمن كقائد المنطقة الجنوبية الذي تم تعييه حديثا اللواء "سالم قطن" وتميزت كذلك بمشاركة ميدانية للجنود والخبراء الأمريكان في عمليات التوجيه المدفعي وعلى مستوى التخطيط العام للعمليات العسكرية وهذا بجانب حملة إعلامية صممت على أساس إرباك تماسك مقاتلي أنصار الشريعة ببث الأخبار الكاذبة عن أعداد القتلى وسقوط المدن والمناطق وحملة أخرى استهدفت إحداث ضغط نفسي على أنصار الشريعة من خلال القصف المستمر على المدنيين في كل يوم ..
ومع ذلك حافظ مقاتلوا أنصار الشريعة على مراكزهم ولم يتزحزحوا عنها وقد أبدوا في ذلك رباطة جأش ومرونة كبيرة في استيعاب اندفاع الحملات العسكرية على جبهاتهم ومن ثم ردها بكل عنف ، هذا وقد ترك المجاهدون طريق لودر - الوضيع - أحور مفتوحا بالتنسيق مع قبائل المراقشة مع ترتيب كمائن محكمة وفي أماكن مختلفة وقد كان العدو أجبن من أن يتقدم من خلالها ولذا حاول وزير الدفاع اليمني أن يحرك بعض العسكريين من أبناء قبيلة " آل المارم " من منطقة الوضيع - وهي قبيلة عبد ربه منصور - وذلك عبر فرض التحرك عليهم والتهديد بفصلهم من الخدمة فتحركوا بالفعل ووقعوا في إحدى الكمائن ثم فروا هاربين وقد تسببت هذه الحادثة في توتر العلاقات بين المراقشة وآل المارم حيث استنكر المراقشة دخول آل المارم إلى أراضيهم وهذا موقف من المواقف الجيدة التي تحسب لقبيلة المراقشة وهنا تظهر أهمية كسب مثل هذه القبائل وأهمية ما تقدمه من دعم .
أما بالنسبة للجبهة الرئيسية في الحرب فقد كانت بإتجاه "وقار" وتحديدا ناحية جبهة الحرور فهي منطقة مفتوحة يصعب معها تثبيت خط للدفاع.. بخلاف زنجبار فقد كان الخط الدفاعي فيها قويا فطبيعة المنطقة تسمح بتثبيت مواقع و تغطية الثغرات الأخرى بالحواجز والسواتر وغيرها.. وأستطيع القول بأن تلك الحواجز بعد توفيق الله ثبتت الخط في زنجبار وأعاقت حركة الآليات والدبابات بشكل تام أما الحرور فمنطقة مفتوحة و رملية مستوية ليس فيها أي تضاريس.. وكان العدو يستخدم اسلوب "التشتيت" فيضع تشكيلة مكونة من دبابة و طقم و مدرعة وعدد من الجنود.. فيضطر الأنصار تبعا لذلك لترتيب مجموعة مقابلة لهم لتثبيت الخط.. ثم يقوم العدو وعلى بعد مئتين متر بوضع تشكيلة مماثلة من دبابة وطقم و مدرعة.. فيكرر الأنصار نفس الأسلوب بشكل يستنزف قواهم البشرية بدرجة كبيرة في الوقت الذي لا تريد القيادة فيه الحشد لأعداد كبيرة لتثبيت الخط حتى لا تصاب هذه الجموع باختناق في حال الانسحاب ولا يخفى ما في ذلك من مخاطر بعكس جبهة زنجبار التي كانت الحواجز الهندسية تغطي كل ثغرات الخط فيها ..
وعموماً فمساحة المنطقة من الخط في زنجبار إلى خط القتال في الحرور لا يزيد تقريبا عن 25 كيلو متر فمنطقة القتال في وقار وزنجبار صغيرة وهذا ما قلل من فرص العدو ومحاور تقدمه .
وفي هذه الفترة تركز الجهد الإعلامي لأنصار الشريعة وبحسب الخطة الموضوعة على إشعار العدو بأن أنصار الشريعة سوف يستميتون في القتال ولعل الجميع لاحظ هذا الشيء في آخر الأيام قبيل الإنسحاب كاللقطات التي نشرت عبر "وكالة مدد" للغنائم وبعض الكلمات المحرضة وكذلك لقاء حمزة الزنجباري أمير أبين مع الصحفي عبدالرزاق الجمل في مبنى محافظة زنجبار والذي جاء ليدحض مزاعم الإعلام الرسمي في السيطرة على زنجبار فكل تلك الإشارات الإعلامية كانت جزءا من مخطط الخداع الإستراتيجي الذي وضع بعناية لدعم عملية الإنحياز في مثل هذه الظروف الصعبة ويظهر لنا هنا وجه الشبه الشديد بما فعله خالد بن الوليد قبل الإنسحاب في معركة مؤتة
تنفيذ الإنسحاب
في يوم الثلاثاء 22 رجب أصدرت قيادة الأنصار لجميع وحداتها المقاتلة في زنجبار ووقار أمرا بالإنسحاب العام وقد كان وقت التنفيذ في الساعة الثالثة صباحا و كانت كلمة السر للانسحاب والتي لا يعرفها سوى عدد قليل من القيادات هي "عبد الحافظ سعيد" وكان فيها نوع من الفأل الحسن وبحفظ الله وتوفيقه تم الأمر بنجاح ودون أي خطأ أو تأخير في مواعيد انسحاب الوحدات المقاتلة مع الوحدات الإدارية في داخل المدن
وقد تم سحب كل تلك الجموع من مراكز القتال في وقار والحرور وزنجبار دون أن يفقد أحد منهم ودون أن يشعر العدو بما حدث ولم تشرق الشمس يومها إلا بعد انسحاب الأنصار جميعاً ثم وصلت جموع المنسحبين إلى منطقة "شقرة"
وقد تم سحب جميع السلاح الثقيل بفضل الله باستثناء الدبابات ولم يقم الأنصار بتفجيرها حتى لا يلفتوا نظر العدو للإنحياز وقدكان بالإمكان عمل ألغام مؤقتة لتفجيرها بعد الانسحاب ولكن الأنصار خافوا أن تنفجر في الناس فتركوها بسبب ذلك..
وفور تنفيذ الإنسحاب بدأت عملية توزيع و تفريغ المئات من المجاهدين في مجموعات قتالية محدودة العدد إلى كل المناطق والمحافظات في اليمن وذلك في خلال أيام قليلة بعد عملية الإنحياز , وكانت قيادة الأنصار تحرص على ألا تكون هناك أي نقطة تجمع للمقاتلين حتى لا يسهل استهدافها بالطيران .. ولكن اندفاع الجيش وبشكل كبير للضغط في جبهة العرقوب في "شقرة" وفي "حسان" من جهة زنجبار أدى إلى سقوط بعض القتلى فاضطر الأنصار للانحياز "للمحفد" وبسبب هذا الطارئ تجمعت أعداد كبيرة جدا من المجاهدين في إحدى الشعاب فجاء الطيران الأمريكي ليقتنص هذه الفرصة وقصف بكل ما لديه من صواريخ وقذائف وكان يقصف كل عشر دقائق إلا أنه وبفضل من الله "الحافظ" لم يقتل من الأنصار أحد وبذلك تمت آخر فصول الإنحياز بنجاح تام ولله الحمد والمنة ..
إلا أنه و بعد الانحياز من "وقار" بعدد من الأيام وكإجراء إحترازي تم بفضل الله وحده قطف رأس اللواء "سالم قطن".. و الحقيقة أن الكثيرين لا يعلمون ماذا تعني هذه الشخصية ويظنون أنه مجرد القائد العسكري للمنطقة الجنوبية, في حين أن خطورته ودوره أكبر من ذلك بكثير..
سالم قطن رجل عسكري من الطراز الأول , وهو من الزمرة التي انقلبت على الاشتراكيين و انضمت لعلي صالح وله نفوذ واسع في الدولة وقبلياً كذلك.. ومنصب قائد المنطقة الجنوبية ليس بشيء مقابل نفوذه الضارب بأطنابه في المجتمع اليمني والرجل ذكي وشجاع وذو شخصيته قوية .. دراساته الأكاديمية كانت في روسيا و له تجارب ميدانية جيدة..
الضربة الكبرى في مقتله كانت لعبد ربه منصور الذي كان يراهن عليه ليقدمه للأمريكان بديلاً عن "أحمد علي" لقيادة قوات الحرس الجمهوري تحت المخطط الشكلي لهيكلة الجيش.. وبحكم كون "قطن" جنوبي قبلي وبحكم كونه من قبيل العوالق أكبر قبائل شبوة وعلى ما يمتع به من صفات خادعة خبيثة فله نفوذ قبلي كبير عند العوالق.. فكان في مقتله كبح لشر أهل الشر من القبائل في شبوة عموماً وأبين.. والحمد لله الذي وفق لذلك وإلا لكان شوكة في حلق المجاهدين في شبوة وأبين.. وقد تزامن مقتله مع كمين قام به المجاهدون على حملة كانت متقدمة من "عتق" إلى "عزان" قرابة 12 دبابة و 25 طقم وعدد من الشاحنات التي تحمل الجنود والعتاد وتحت وقائع الكمين اضطرت الحملة للهرب والعودة إلى حيث جائت لا تلوي على شيء.. وحسب ما أعلن في الإعلام فقد قتل في هذا الكمين قائد الأمن المركزي بعتق عاصمة محافظة شبوة وعدد من الجنود.. وهذا التزامن بين الكمين في شبوة و اغتيال قطن في عدن فرض للمجاهدين قوة وهيبة في شبوة حتى بعد انسحابهم من مركزها "عزان" لدرجة أن قبيلة العوالق أكبر قبائل شبوة استأذنت من أمير أنصار الشريعة في شبوة والذي ينحدر من نفس القبيلة أن تقوم بدفن سالم قطن في وادي الصعيد مسقط رأسه . وبهذه الإجراءات الأخيرة من إغتيال قطن وضرب الحملات التي ترغب في التوغل إلى المناطق الداخلية يكون الأنصار قد أنهوا خطوات التأمين الإحترازي لما بعد عملية الإنحياز .
ونلاحظ هنا أن خطة الخداع التي ابتدأت بسلسلة العمليات العسكرية والإعلامية منذ فبراير الماضي إلى ما قبل ساعة الصفر من يوم الثلاثاء قد أدت إلى مباغتة العدو إرباكه بل وإلى عدم تصديقه لفترة من الوقت بأن العملية بالفعل كانت إنحياز كامل فمن يراجع تصريحات المسؤولين اليمنيين بعد العملية يدرك مدى التخبط الذي وقعوا فيه جراء الصدمة فهم من باب سعداء لأنهم دخلوا زنجبار ووقار بعد أن عجزوا عن ذلك بالقتال لأكثر من عام ومن باب آخر متوجسون ومرتعبون مما يمكن أن يحدث بعد ذلك !! فساحة الحرب الآن إنتقلت من ميادين الحرور والعرقوب لتشمل اليمن كله ومازالت ذكريات ميدان السبعين حاضرة في أذهانهم ثم جاءت عملية إغتيال " قطن" لتؤكد هذه المخاوف فآخر ما ترغب به الجيوش النظامية هي أن تكون فريسة لحروب لا متوازية ضد عدو ينهش فيها وهي لا تراه !
إلا أن دلالات الموقف تتعدى هذه المخاوف إلى مستويات أعلى منها بكثير فالمكاسب التي تحققت في فترة سيطرة أنصار الشريعة على أبين ووفرة الغنائم والموارد المالية ووصول العديد من المقاتلين والكوادر من خارج اليمن وانضمامهم لكتائب الأنصار وتخريج بعض الدفعات من معسكرات أبين كلها نقاط تؤكد على أن الجولة القادمة ستكون " أسخن " عسكريا وإن قام تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وهو اليد الضاربة لأنصار الشريعة وقرر الدخول في مرحلة " تصفية" للأهداف البشرية المهمة فلن يجد أمامه عوائق أمنية تذكر كشركات الحماية الأجنبية " بلاك ووتر" وأخواتها والتي كانت تحف وتحوط بالمسؤولين في العراق وأفغانستان !
وقد جاء في التاريخ العسكري عدة حوادث لجأت فيها القوات المنسحبة إلى مرحلة من التصفية ريثما تعود مجددا بعد أن تضعف بنية العدو العسكرية والتنظيمية ومنها على سبيل المثال ما فعله الجنرال الفرنسي " ديغول" في بداية الحرب العالمية الثانية عندما سحب قواته من أمام الجيوش الألمانية المدرعة ولجأ بمن سلم منها إلى بريطانيا ثم قام بتأسيس وزرع 8 منظمات إرهابية - إحدى هذه المنظمات كانت تحت إسم" منظمة إرهابيي فرنسا !! " - تعمل على كامل الأراضي الفرنسية وتشاغل الألمان بالإغتيالات والكمائن وقطع طرق الإمداد وغيره ريثما يتم ترتيب الحملة العسكرية لتحرير فرنسا وهو ما حدث بعد ذلك في الإنزال الشهير على السواحل الفرنسية في " النورماندي " .
محاكمة أنصار الشريعة
تعمد بعض البلدان إلى تأسيس لجان متخصصة للحكم على الإجراءات السياسية والعسكرية التي اتخذت من وقت لأخر كما يفعل الكونجرس في جلسات الإستماع وكما تم في لجنة " غرانت" الإسرائيلية في أعقاب حرب أكتوبر وغيرها ، ففي كل تلك الحالات يستدل القادة السياسيين والعسكريين بشواهد تاريخية تؤيد ما ذهبوا إليه من قرارات وبودي هنا أن نجري مثل هذه المحاكمة للمسار السياسي والعسكري الذي اتبعته أنصار الشريعة ووفق هذا الضابط التاريخي الذي لا يحابي أحدا على أحد .
والحقيقة أني أثناء استعادتي للتجارب التاريخية وجدت مثالين ناجحين وشبيهين إلى حد كبير بتجربة أنصار الشريعة من ناحية المسار الإستراتيجي قبل وبعد الإنحياز ، وسأبدأ أولا بعرض هذين المثالين ثم نأتي على تحديد وجه الشبه في الموقف العسكري والسياسي والإستراتيجية التي أتت لعلاجه .
الحالة الأولى : "ماوتسي تونغ" في الصين الشعبية
كتب روبرت غرين : بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج اليابانيين من الصين التي دخلوها في عام 1937 رأى القوميون الصينيون بقيادة "شيانج كاي شك" أنه الوقت المناسب للقضاء نهائيا على الشيوعيين خصومهم الألداء . كان القوميون قد اقتربوا من تحقيق هدفهم عام 1935 بعد أن أجبروا الشيوعيين على "الزحف الطويل" وهو الإنسحاب المرهق الذي قلل كثيرا من أعدادهم، على الرغم من تعافي الشيوعيين نسبيا أثناء الحرب مع اليابان إلا أنه كان لا يزال في الإمكان هزيمتهم فلم يكونوا يتحكمون إلا بمناطق نائية في الريف وكان عتادهم بدائيا ولم تكن خبرات عسكرية ولا يعرفون طرقا أخرى غير قتال الجبال ولم تكن لهم قواعد إلا في بعض المناطق من منشوريا استولوا عليها بعد خروج اليابانيين ، خطط "شيانج" أن يخصص أفضل قواته لاسترداد كبرى مدن منشوريا واتخاذها كقواعد للإنتشار إلى المناطق الشمالية الصناعية ليسحق الشيوعيين للأبد .. سارت الخطة نبجاح كبير في العامين 45 و1946 واستولى القوميون بسهولة على مدن منشوريا لكن رد الشيوعيين على ذلك كان محيرا للغاية ، فمع تقدم القوميين كان الشيوعيون ينتشرون في الأنحاء النائية والبعيدة من منشوريا ! وبدأت وحداتهم الصغيرة تناوش جيوش القوميين وتنصب لهم الكمائن ثم تنسحب دون نمط محدد ،ولم تجتمع هذه الوحدات في مكان واحد أبدا وجعل ذلك مهاجمتهم مستحيلة ،كان الشيوعيون يسيطرون على مدينة ثم يتركونها بعد أسابيع قليلة ، لم يكونوا جيشا له اتجاه للتقدم أو قواعد يرتد إليها بل كانوا ينسابون كالزئبق دون نمط محدد فلا يمكن التنبؤ أبدا بأماكنهم !
فسر القوميون ما يفعله الشيوعيون بأمرين : الخوف من مواجهة قوات القوميين التي تتفوق عليهم في العدد والعتاد ، وعدم خبراتهم في استراتيجيات القتال .. لكن ظهر بعد فترة المغزى من أسلوب "ماوتسي" فبعد أن استولى القوميون على المدن وتركوا للشيوعيين الأطراف التي اعتبروها بلا فائدة بدأ الشيوعيون يستغلون هذه الأطراف الشاسعة لإعداد الهجمات لحصار المدن وإذا أرسل "شيانج" جيشا من مدينة لإنقاذ مدينة أخرى كانوا يحاصرون جيش الإنقاذ . بدأت قوات شيانج في التفتت إلى وحدات صغيرة منعزلة وانقطعت خطوط إمدادهم واتصالاتهم ، كان لا يزال لدى القوميين التفوق في القدرات العسكرية ولكن ما كانت فائدتها طالما لم يعودوا قادرين على التحرك ؟ أخذ القوميون ينهزمون في قلوبهم وكانت مدنهم تسقط حتى قبل أن تهاجم ،وبسرعة أخذت تتساقط بالفعل مدينة بعد أخرى،في نوفمبر 1948 سلم القوميون منشوريا للشيوعيين وكانت ضربة مهينة لجيش القوميين المتفوق تقنيا والذي أثبت كفاءته في الحرب مع اليابانيين وفي العام التالي سيطر الشيوعيون على كل أنحاء الصين.
التعليق : نلاحظ في هذا المثال التاريخي أن القائد الصيني الشهير "ماوتسي تونغ" قام باستثمار سقوط الدولة الصينية تحت الإحتلال الياباني لصالح إخراج المشروع الشيوعي إلى "العلن" فقام بالسيطرة على إقليم "منشوريا" وبدأ بنشر تعاليم الشيوعية لأول مرة بشكل رسمي ودون خوف أو تشويه من السلطات الحكومية ، ثم لما آلت الأمور لصالح الجيش الحكومي بعد هزيمة اليابان قام ماوتسي بذلك الإنسحاب التكتيكي الذي حير أعدائه كثيرا واستثمر قدراته البشرية والفنية التي إزدادت بعد مرحلة السيطرة على منشوريا في إحكام الحصار النفسي والإستراتيجي الذي فرضه على القوات الحكومية فأدى ذلك في نهاية المطاف إلى إنسحاب الجيش الحكومي من ذلك الإقليم وعودة قوات الشيوعيين إليه وهذا هو نفس المسار الإستراتيجي الذي اتبعه أنصار الشريعة منذ البداية .
الحالة الثانية : الصحابة في فتوح الشام
ذكر المستشرق الإنجليزي "ألفرد جيوم" في إحدى كتاباته : أن الشعوب في مصر والشام والعراق وغيرهم استقبلت المسلمين بالترحاب لأنهم خلصوهم من الإبتزاز الإمبراطوري الروماني والفارسي.إنتهى. وقد اختصرت هذه العبارة عاملا من أهم العوامل التي ساعدت على إنجاح حركة الفتوح الإسلامية في الشام وبقية البلدان ، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفتحون البلدان والقلوب في آن واحد ، فإن خسروا الأولى تبقى معهم الثانية ، فتلك الشعوب التي لم تتعود إلا الإستعباد والذل والمهانة من الأنظمة التي كانت تسوسها أو من تلك التي تستعبدها بعد الإحتلال انبهرت بالنظام الإسلامي القائم على العدل والرحمة وإعطاء كل ذي حق حقه وإن كان من غير المسلمين ومن هذا ما حدث في الشوط الثاني من فتوحات الشام فعندما حشد هرقل حملته العسكرية الضخمة لاسترداد الشام والتي بلغ قوامها 200 ألف جندي قرر المسلمون الإنسحاب من حمص لقربها من الجيش الروماني فقام المسلمون حينها برد الجزية كاملة لأهل حمص لعدم تمكنهم من حمايتها فتأثر أهل حمص كثيرا وقالوا : "قاتل الله من كان يحكمنا من الرومان والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا شيئا ، أعادكم الله إلينا سالمين" . ثم توالت الإنسحابات بعد ذلك من دمشق إلى الجابية ثم إلى المحطة الأخيرة في "أذرعات" وقد كانت الجيوش الرومانية الجرارة في هذه الآونة تدخل تلك المدن التي تم الإنسحاب منها فتعيث فيها فسادا ، وهذا ما جعل أهل تلك الديار يقارنون ما كانوا فيه أيام حكم المسلمين وبين ما عادوا إليه من الظلم والجور ، فمع أن قرار الإنسحاب من تلك المدن كان صعباومؤلما على المسلمين إلا أن الذكريات التي تركوها خلفهم كانت كفيلة بتسهيل عودة المسلمين لتلك المدن بعد إلحاق الهزيمة بالحملة الرومانية وهذا ما حدث بعد المعركة الفاصلة في "اليرموك" ، فأهالي تلك المدن لم يقدموا أي إسناد يذكر للأرتال الرومانية المنسحبة من اليرموك كما يحصل عادة لمن يمتلك مناطق خلفية موالية ، وهذا ما جعل الرومان يكملون الهزيمة إلى خارج الشام وبلا رجعة .
التعليق : مما يذكر في هذه الحادثة التاريخية أن عمليات الإنسحاب التي تمت من حمص ودمشق والجابية لم تكن على رأي كبار القادة كأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد اللذين فضلا البقاء في المدن وعدم التخلي عنها ومع ذلك نزلا على رأي الشورى وقد وافقهما عمر بن الخطاب الرأي عندما وصله خبر الإنسحاب في رسالة وجهها أبو عبيدة إليه فعندما نظر عمر في الرسالة قال ( لماذا يتركون أرضا فتحها الله عز وجل عليهم إن هذا يجرئ عدو الله عليهم ! ثم قال للرسول : هل رأيتهم اجتمعوا على ذلك ؟ فقال:نعم ،فقال عمر : أرجو أن يكون الله قد جمعهم على الخير ) وهذا الشعور بالإستياء والمرارة من التخلي عن المدن بعد فتحها هو نفس الشعور الذي ساد عند بعض القادة والجند من أنصار الشريعة إلا أن اطمئنان الجميع لبركة الشورى كفيل بمحو تلك المشاعر بإذن الله والذي يهمنا في هذا المقطع التاريخي هو أن نلاحظ الفائدة الإستراتيجية التي ترتبت على فترة الحكم الإسلامي في مدن الشام الذي تم الإنسحاب منها ، فهذه التجربة القصيرة شكلت نموذجا فريدا في الحكم والإدارة فتطلعت إليه النفوس عندما سمعت به وتمنت عودته عندما غاب عنها وهذا هو عين الهدف الذي وضعه الأنصار نصب أعينهم أثناء السيطرة على مدن أبين ، فالنموذج الذي قدمه أنصار الشريعة في وقار وشقرة وعزان وغيرها تشوقت إليه بقية المناطق التي كانت تعاني من نفس المشاكل التي تعافت منها تلك المدن وهذا ما جعل أهل بعض تلك المدن يعترض على انسحاب أنصار الشريعة منها ويخرج البعض الآخر في مظاهرات تطالب بعودتهم بعد الإنسحاب الذي تم ولسان حالهم يقول كما قال أهل حمص من قبل { أعادكم الله إلينا سالمين }.
وكما قال الشاعر شيبة الحمد يصف شوق "وقار" للأنصار :
للـه أحبـاب أحـن إلـيهـمـو
كانـوا زهـور الـروض فـوق تـرابـي
آثـارهـم حـسنـى ونـفـح غبـارهـم
مسـك وحسـن فعـالهـم ألـقـابـي
خاتمة ..
قبل عام ونصف من الآن كنا بضع مئات من المجاهدين المطاردين بلا مشروع سياسي أو هوية معروفة بين الناس سوى ما كان يبثه إعلام علي عبدالله صالح ونحن الآن أكثر عددا وأقوى عدة والمهم أننا اكتسبنا حاضنة شعبية غير قابلة للإختراق بالريال والدرهم أما الأهم فكوننا الآن نمثل تيارا شعبيا رأى وعايش مشروعا إسلاميا متكاملا في الإدارة والحكم وهو الآن يقارنه بالأوضاع المزرية التي عادت من حوله ، وهو الآن يترقب تلك العودة ويعيش على أملها كما ترقب أهل الشام عودة الصحابة إليهم . . فهذا الفتح الذي حصل لتلك القلوب وهذه القناعات الجديدة التي تشكلت جراء تلك التجربة الفريدة هي من جنس تلك المعاني التي أبهمت وسط غبار خيول المسلمين يوم مؤتة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم : "فتح" ، وأبهمت بين ثنايا صلح الحديبية فسماها الله عز وجل في كتابه الكريم : "فتحا مبينا" .
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
عبدالله بن محمد
21رمضان1433
جزيرة العرب
ملاحظة : سأبدأ بعون الله في متابعة الأحداث عبر تويتر منذ اليوم على العنوان التالي :@Abdllh_bn_m7mmd
ناشط اسلامي- عدد الرسائل : 1
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 10/08/2012
رد: محاكمة أنصار الشريعة
اللهم ما يحدث في الشعوب العربيه
وما انت ادرى به
اجعله خيرا لها يا ارحم الراحمين
اللهم وابعد عنها شره وسيئه انك على كل شيء قدير
وما انت ادرى به
اجعله خيرا لها يا ارحم الراحمين
اللهم وابعد عنها شره وسيئه انك على كل شيء قدير
zahora- عدد الرسائل : 10
العمر : 38
الموقع : اليمن
تاريخ التسجيل : 12/09/2012
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى